قصة قصيرة : رحلتي مع العود بقلم : فؤاد المنصوري

المغربية المستقلة  : بقلم فؤاد المنصوري

الفصل الأول: الطلعة الكبيرة


في صباحٍ ربيعيٍّ من صباحات فاس، حين كانت الشمس تتسلل بخجل بين جدران المدينة العتيقة، أيقظني والدي الحاج عبد السلام بصوته الهادئ:
“قم يا وليدي، اليوم عندنا مشوار خاص.”
لم أكن أعلم أن ذلك اليوم سيغيّر مجرى حياتي.

ارتديت قميصي الأزرق الذي خاطته لي أمي الحاجة فاطمة، وربطت حذائي الجديد الذي اشتراه لي والدي في موسم العيد. خرجنا من باب دارنا في حي البطحاء، وبدأنا نسير في أزقة فاس القديمة، حيث تختلط رائحة الخبز الطازج برائحة الجلد المدبوغ، وتتمايل أصوات الباعة مع وقع أقدام المارة.

كان والدي يمشي بخطى واثقة، يحيّي هذا ويمازح ذاك، وأنا أتبعه كظله، أراقب كل شيء بعينين متسعتين من الدهشة. مررنا من باب بوجلود، ثم دخلنا إلى “الطلعة الكبيرة”، ذلك السوق الذي طالما سمعت عنه في أحاديث الكبار، ولم أزره من قبل.

الطلعة الكبيرة لم تكن مجرد سوق، بل كانت مسرحًا حيًّا للحياة. الحرفيون منهمكون في أعمالهم، أصوات المطرقة على النحاس، رائحة الخشب المقطوع، أنغام العيدان التي تتسلل من بعض الدكاكين، كل شيء كان ينبض بالحياة. شعرت كأنني دخلت إلى عالمٍ سحري، لا يشبه شيئًا مما عرفته من قبل.

توقف والدي أمام دكان صغير، تعلوه لافتة خشبية مكتوب عليها بخط مغربي أنيق: “ورشة العربي لصناعة العود”. دفع الباب الخشبي الثقيل، فصدر صوت خافت يشبه تنهيدة قديمة. دخلنا، وإذا برجل مسنّ، بوجهٍ تكسوه التجاعيد، وابتسامة دافئة، ينهض من خلف طاولة مليئة بالأدوات.

“آهلا بالحاج عبد السلام!” قالها بصوت أجشّ، وهو يمد يده بحرارة.
“جيتك اليوم مع وليدي، باغي ليه أول عود.”
نظر إليّ عمّ العربي بعينين لامعتين، ثم قال: “مرحبا بك آ الشاب، واش كتسمع الموسيقى؟”
هززت رأسي بخجل، وقلت: “كنسمع، وبغيت نتعلم.”
ابتسم، وأشار إلى الجدار حيث كانت العيدان معلقة كأنها لوحات فنية.

اقتربت منها، قلبي يخفق، وعيناي تتنقلان بين الأشكال والألوان. كان هناك عود صغير الحجم، مصنوع من خشب الجوز، يلمع تحت ضوء المصباح الأصفر. لا أدري لماذا، لكنني شعرت أنه يناديني. مددت يدي ولمسته، فشعرت بدفء غريب، كأنني ألمس شيئًا حيًّا.

“هذا العود مناسب ليه، خفيف وصوته دافئ”، قال عمّ العربي وهو يراقبني.
نظر إليّ والدي، ثم إلى العود، وقال: “إذا عجبك، راه ديالك.”
لم أصدق ما سمعت. أمسكت بالعود كمن يعانق حلمًا طال انتظاره. جلست على مقعد خشبي، وبدأت أمرر أصابعي على الأوتار. لم أكن أعرف كيف أعزف، لكن الصوت الذي صدر كان كافيًا ليشعل نارًا في داخلي.

جلس والدي إلى جانبي، وضع يده على كتفي، وقال: “هذا العود راه بحال الصاحب، خاصك تصاحبو بصبر ومحبة.”
كلماته تلك ظلت ترنّ في أذني لسنوات.

في طريق العودة، كنت أحمل العود بين يديّ كمن يحمل كنزًا. مررنا من نفس الأزقة، لكن كل شيء بدا مختلفًا. كأنني أراها لأول مرة، بعينين جديدتين، بعينَي عازفٍ صغير بدأ لتوّه رحلته.

حين وصلنا إلى البيت، استقبلتنا أمي بابتسامتها الحنونة، وقالت: “آش جبتو معاكم؟”
أجبت بفخر: “عود ديالي!”
ضحكت أختي خديجة، وقالت: “واش غادي تولي فنان؟”
أجبتها بثقة لم أكن أملكها من قبل: “إن شاء الله.”

في تلك الليلة، لم أنم. ظللت أتأمل العود، ألمس أوتاره، أستمع إلى صمته، وأتخيله يتكلم. لم أكن أعلم كيف أبدأ، لكنني كنت أعلم أنني وجدت شيئًا يشبهني، شيئًا سيصبح جزءًا مني.

وهكذا، في الطلعة الكبيرة، بدأت حكايتي مع العود. لم تكن مجرد زيارة، بل كانت ولادة جديدة، لحلمٍ صغير نما في قلب طفل، وسقاه أبٌ آمن بموهبة ابنه، وصانعٌ رأى في عينيه بريقًا لا يُخطئه القلب.

الفصل الثاني: أول وتر

عدتُ إلى البيت أحمل عودي الصغير كما يحمل الطفل لعبته الأولى، لكنني كنت أعلم، في أعماقي، أن ما بين يديّ لم يكن مجرد خشب وأوتار. كان شيئًا آخر، شيئًا يشبه الحلم، يشبهني.

دخلتُ فناء دارنا في حي البطحاء، حيث تتوسطه نافورة صغيرة تحيط بها بلاطات زرقاء وبيضاء، وتتناثر حولها أصص الريحان والنعناع. كانت الشمس تميل نحو الغروب، تلقي بظلالها الذهبية على الجدران الطينية، وتغمر المكان بدفءٍ حنون.

استقبلتني أمي، الحاجة فاطمة، بعينيها الواسعتين وابتسامتها التي تشبه دعاءً صامتًا. نظرت إلى العود، ثم إليّ، وقالت:
“آش هاد الزين؟”
أجبتها بفخر: “هذا العود ديالي، بابا شراليه من عند عمّ العربي.”
ربّتت على رأسي، وقالت: “الله يبارك، غير حافظ عليه، راه بحال القلب، خاصو العناية.”

جلستُ في ركنٍ من الفناء، حيث اعتدت أن أقرأ أو أرسم، ووضعت العود في حجري. كانت أختي خديجة تراقبني من نافذة المطبخ، تبتسم بخبثها المعتاد، بينما جاء أخي الصغير ياسين يركض نحوي، يمد يده ليلمسه.
“ماشي لعبة هادي، ياسين، راه خاصّو الحنان”، قلت له وأنا أضحك.
جلس بجانبي، يراقبني بعينين تلمعان بالدهشة.

مررتُ أصابعي على الأوتار، فصدر صوت خافت، كأن العود يتنفس للمرة الأولى. لم أكن أعرف المقامات، ولا كيف تُعزف الألحان، لكنني كنت أملك شيئًا آخر: الإحساس. أغمضت عيني، وبدأت أجرّب، نغمة بعد أخرى، أبحث عن صوتي بين الخشب والصمت.

في تلك اللحظة، شعرت أنني لست وحدي. كان العود يكلمني، يهمس لي بأسرار لا تُقال بالكلمات. كل وترٍ كان بابًا، وكل نغمة كانت خطوة في طريقٍ لا أعرف نهايته، لكنني كنت واثقًا أنه طريقي.

خرجت أمي تحمل صينية الشاي، وضعت الكؤوس على الطاولة، وقالت: “زيد، سمعنا شي حاجة.”
نظرت إليها، ثم إلى خديجة التي جلست بجانبها، تهمس لها بشيء وتضحك. شعرت بالخجل، لكنني عزفت. لا لحنًا معروفًا، بل شيئًا من داخلي، شيئًا يشبه نبضي.

ساد صمتٌ جميل. حتى ياسين توقف عن الحركة، وأصغى. حين انتهيت، صفقوا. لم يكن تصفيقًا صاخبًا، بل تصفيقًا دافئًا، يشبه حضنًا.
قالت خديجة: “ماشي معقول، هادشي زوين بزاف!”
وردّت أمي: “الله يرضي عليك، راه الفن نعمة.”

في تلك الليلة، لم أنم. وضعت العود بجانبي، كأنني أخشى أن يضيع. كنت أراقبه في الظلام، أستمع إلى صمته، وأشعر أنه يحميني. لم أكن أعلم أنني بدأت رحلة طويلة، لكنني كنت أعلم أنني وجدت رفيقًا، صديقًا، مرآةً لروحي.

ومنذ ذلك اليوم، صار العود جزءًا من يومي. أستيقظ فألمسه، أعود من المدرسة فأعزف، أنام على صوته. لم يكن أحد يعلّمني، لكنني كنت أتعلم. من الخطأ، من المحاولة، من الإصغاء.

كان والدي يراقبني بصمت، يبتسم حين يراني أعزف، ويقول: “اللي فيه الفن، راه فيه النور.”
وكانت أمي تدعو لي كل مساء: “الله يفتح عليك، ويجعل هاد العود سبب الخير.”

وهكذا، من أول وتر، بدأت العلاقة. لم تكن مجرد بداية، بل كانت ولادة. ولادة عازف، وحالم، وإنسان وجد في الخشب صوته، وفي الأوتار قلبه.

الفصل الثالث: ليالي فاس

كانت ليالي فاس تحمل شيئًا من السحر، شيئًا لا يُرى، بل يُحسّ. حين تغيب الشمس خلف أسطح البيوت الطينية، وتبدأ الأضواء الخافتة تتسلل من النوافذ المزخرفة، كانت المدينة تتحول إلى قصيدة. وكان بيتنا، في قلب حي البطحاء، يشارك في هذا النشيد الليلي، بصوت العود الذي بدأ ينسج حضوره في تفاصيل حياتنا.

في تلك الليالي، كانت الحاجة فاطمة، أمي، تفرش الزربية الحمراء في وسط الفناء، وتضع إبريق الشاي فوق الطاولة النحاسية الصغيرة. كانت رائحة النعناع تتصاعد مع البخار، وتختلط برائحة الياسمين المتسلّق على الجدار. أختي خديجة كانت تجلس على وسادة مطرزة، تمشط شعرها الطويل، وتراقبني بعينين فيهما مزيج من الفضول والفخر. أما ياسين، فكان لا يهدأ، يدور حولي كفراشة، يلمس العود ثم يهرب ضاحكًا.

كنت أجلس في الزاوية، أضع العود في حجري، وأتأمل الأوتار كما لو كانت خيوطًا تربطني بعالمٍ آخر. كنت ما زلت أتعلم، أخطئ كثيرًا، وأعيد المحاولة، لكن شيئًا في داخلي كان يدفعني للاستمرار. كنت أعزف لا لأُبهر، بل لأتواصل، لأقول ما لا أستطيع قوله بالكلمات.

“يلا آ وليدي، سمعنا شي حاجة زوينة”، كانت أمي تقولها كل ليلة، بنفس النبرة، كأنها دعاء.
كنت أبدأ بنغمة بسيطة، ثم أضيف إليها أخرى، ثم ثالثة. لم أكن أعزف لحنًا معروفًا، بل أرتجل، أستمع لما يقوله لي العود، وأرد عليه. كانت خديجة تهمس لي أحيانًا: “هادشي كيخليني نحلم”، وياسين يصفق بحماس، حتى لو لم يفهم ما أفعله.

في إحدى الليالي، زارنا جدي، سي محمد، رجل وقور، يرتدي جلبابًا أبيض، ويضع سبحة في يده. جلس في ركن الفناء، صامتًا، يراقبني. شعرت بالخجل، وترددت في العزف. لكنه قال بصوته العميق: “عزف، ما تخافش، الفن ما فيهش خجل.”
عزفت. وعندما انتهيت، قال: “فيك شي من جدك، كان كيعزف على الرباب، وكان كيغني الملحون.”
تلك الجملة كانت كأنها ختمٌ على قلبي. شعرت أنني لا أبدأ من الصفر، بل أواصل سلالة من العازفين، من الحالمين.

كانت تلك الليالي أكثر من مجرد جلسات عائلية. كانت مختبرًا للروح، مسرحًا صغيرًا أتمرن فيه على مواجهة العالم. كنت أتعلم كيف أتحكم في توتري، كيف أستمع للآخرين، كيف أعبّر عن نفسي دون أن أتكلم. وكان العود، في كل مرة، يزداد قربًا، كأنه يفهمني أكثر مما أفهم نفسي.

أحيانًا، كنت أستيقظ في منتصف الليل، أخرج إلى الفناء، أجلس تحت ضوء القمر، وأعزف بصوت خافت. كانت المدينة نائمة، لكنني كنت أشعر أن فاس كلها تنصت. كنت أسمع صدى أوتاري يرتدّ من الجدران، كأنها تردّ عليّ التحية.

في إحدى تلك الليالي، قالت لي أمي: “راك غادي تولي فنان كبير، غير خليك ديما قريب من قلبك.”
تلك الكلمات، البسيطة والعميقة، ظلت ترافقني. كانت تلك الليالي نواة الحلم، الحلم الذي بدأ في بيتٍ فاسيّ، بين أمّ تُصغي بقلبها، وأبٍ يزرع الثقة، وأختٍ تصفق، وأخٍ يضحك، وجدٍّ يبارك.

الفصل الرابع: بين المدرسة والعود

لم يكن الصباح في فاس يشبه ليلها. كانت المدينة تستيقظ على وقع خطوات متسارعة، على صياح الباعة، وعلى جلبة التلاميذ المتجهين نحو مدارسهم بعيون نصف نائمة وحقائب أثقل من أحلامهم. كنت واحدًا منهم، أرتدي مريولي الأزرق، أضع العود في زاوية الغرفة، وأغلق الباب عليه كأنني أعتذر له.

في المدرسة، كنت تلميذًا عاديًا. لا مشاغبًا ولا متفوقًا. كنت أستمع للمعلمين، أدوّن ما أستطيع، لكن شيئًا في داخلي كان يظل معلقًا في الفناء، حيث تركت عودي. كنت أعدّ الساعات، لا لأعود إلى البيت، بل لأعود إلى العود. لم تكن الرياضيات تثيرني، ولا قواعد اللغة، إلا حين أجد فيها إيقاعًا يشبه نغمة ما. كنت أبحث عن الموسيقى في كل شيء، حتى في صمت السبورة.

ذات يوم، طلب منا أستاذ الاجتماعيات أن نكتب موضوعًا عن “ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟”. كتب زملائي عن الطب والهندسة والطيران. أما أنا، فكتبت: “أريد أن أصبح عازف عود كبير، يُسافر بصوته إلى قلوب الناس.” قرأ الأستاذ الموضوع بصوت عالٍ، ثم نظر إليّ مبتسمًا وقال: “ولكن هذا لا يُطعم خبزًا، يا ولدي.” ضحك القسم، وضحكت معهم، لكن شيئًا في قلبي انكمش.

في البيت، لم أجرؤ على إخبار أبي. كان رجلاً عمليًا، يقدّس التعليم، ويرى في المدرسة طريقًا وحيدًا للنجاة. لم يكن يكره العود، لكنه كان يراه هواية، شيئًا يُمارَس بعد أداء الواجب، لا قبله. كنت أسترق اللحظات، أدرس بسرعة، أُنجز فروضي، ثم أهرع إلى العود كمن يهرب إلى ملاذه. كنت أضع وسادة خلف الباب، حتى لا يسمعني إن عاد مبكرًا.

لكن الأسرار لا تدوم. في إحدى الأمسيات، دخل فجأة، وأنا أعزف قطعة لمحمد عبد الوهاب، كنت قد حفظتها من شريط قديم. توقف عند الباب، لم يتكلم. نظرت إليه، ويدي ترتجف على الوتر. قال بهدوء: “واش هذا وقت العود؟” ثم أغلق الباب دون أن يضيف شيئًا. لم يصرخ، لم يمنعني، لكن صمته كان أثقل من أي توبيخ.

في تلك الليلة، لم أعزف. وضعت العود في غلافه، وخبأته تحت السرير. شعرت كأنني خنته. لكن في اليوم التالي، وجدت ورقة صغيرة على مكتبي، بخط أبي: “إذا كنت تحب شيئًا، فلا تهرب منه، بل نظّم وقتك حتى لا تخسره.” كانت تلك أول مرة يمد لي يده دون أن يقولها صراحة.

منذ ذلك اليوم، بدأت أعيش بين عالمين: عالم المدرسة، وعالم العود. كنت أستيقظ باكرًا، أراجع دروسي، أذهب إلى المدرسة، أعود، أتناول الغداء، ثم أخصص ساعة للعود، وساعة للواجبات. لم يكن الأمر سهلاً، لكنني كنت أتعلم شيئًا جديدًا: أن الحب لا يكفي، لا بد من الانضباط.

وفي إحدى أمسيات الجمعة، دعت المدرسة بعض التلاميذ للمشاركة في أمسية ثقافية. ترددت، ثم تقدمت. عزفت قطعة صغيرة، أمام زملائي، أمام أساتذتي، أمام أبي الذي حضر دون أن يخبرني. وعندما انتهيت، صفق الجميع، لكنني لم أسمع سوى تصفيقه. كان يصفق ببطء، بعينين فيهما شيء من الدهشة، وشيء من الفخر.

في تلك اللحظة، أدركت أنني لا أحتاج أن أختار بين المدرسة والعود. كلاهما يبني جزءًا مني. المدرسة تعلّمني كيف أفكر، والعود يعلّمني كيف أشعر. وبينهما، كنت أجد نفسي، شيئًا فشيئًا، نغمةً بعد نغمة، فكرةً بعد فكرة.

الفصل الخامس: أوتار المدينة

لم تكنفؤاد المنصوري فاس سوى البداية. كانت المدينة تحتضنني كأمّ حنون، لكن شيئًا في داخلي كان يتوق إلى الخروج، إلى أن يسمعني العالم خارج جدران بيتنا العتيق. كنت قد بدأت أشارك في أمسيات المدرسة، ثم في دار الشباب، ثم في مهرجانات صغيرة تقام في الأحياء. ومع كل عزف، كنت أشعر أنني أقترب أكثر من ذاتي، وأبتعد قليلاً عن الخوف.

في أحد الأيام، جاءني أستاذ الموسيقى في دار الشباب، وقال: “كاين مهرجان في الرباط، خاصك تكون من بين المشاركين.” لم أصدق. الرباط؟ العاصمة؟ كنت أراها في التلفاز، مدينة كبيرة، أنيقة، بعيدة. لكنني لم أتردد. وافقت، وبدأت أتمرن كأنني أتهيأ للقاء مصيري.

كانت الرحلة إلى الرباط أول مرة أغادر فيها فاس وحدي. حملت حقيبتي، وعلّقت العود على ظهري، كأنه جناح. في القطار، جلست قرب النافذة، أراقب الحقول تتبدل، والسماء تتسع. كنت متوترًا، لكن شيئًا في داخلي كان يهمس: “أنت في طريقك.”

وصلت إلى الرباط مساءً. المدينة كانت مختلفة: أكثر صخبًا، أكثر اتساعًا، لكن أقل دفئًا. شعرت بالغربة، لكنني تمسكت بالعود، كمن يتمسك بجذوره. في الفندق، التقيت بمشاركين من مدن أخرى: من مراكش، من وجدة، من طنجة. كانوا أكبر مني، أكثر خبرة، لكنني لم أشعر بالنقص. كنت أحمل شيئًا لا يُقاس بالسنين: ليالي فاس، وصوت أمي، ونظرة أبي، وهمسة خديجة، وضحكة ياسين.

في يوم العرض، دخلت القاعة وقلبي يخفق كطبلة. الجمهور كان كبيرًا، الأضواء ساطعة، والميكروفون أمامي كعين تراقبني. جلست، وضعت العود في حجري، وأغمضت عيني. لم أفكر في الفوز، ولا في الجمهور، بل في الفناء، في الزربية الحمراء، في صوت أمي وهي تقول: “سمعنا شي حاجة زوينة.”

عزفت. لم أعد أذكر ماذا عزفت بالضبط، لكنني أذكر الشعور: كأنني أطير، كأنني أذوب في النغمة، كأنني أقول للعالم: “ها أنا.” وعندما انتهيت، ساد صمت قصير، ثم تصفيق. تصفيق حقيقي، صادق، لا مجاملة فيه. شعرت أنني وُلدت من جديد.

بعد العرض، اقترب مني أحد أعضاء لجنة التحكيم، رجل في الخمسين، يرتدي نظارات سميكة، وقال: “عندك صوت خاص، ما تخليش المدينة تطفيو.” لم أفهم تمامًا، لكنني شعرت أنني سمعت نبوءة.

عدت إلى فاس محملاً بشهادة مشاركة، ودفتر ملاحظات مليء بتواقيع وأرقام هواتف، لكن الأهم: عدت بثقة جديدة. لم أعد ذلك الطفل الذي يخاف من نظرة أبي، ولا ذلك التلميذ الذي يخبئ العود تحت السرير. صرت شابًا يعرف أن له مكانًا، حتى لو كان صغيرًا، في هذا العالم الكبير.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت المدينة تتسع لي. لم تعد فاس فقط، بل كل المدن التي تحمل مسارح، وجمهورًا، وأحلامًا. كنت أعلم أن الطريق طويل، وأن النجاح ليس حفلة واحدة، لكنني كنت مستعدًا. لأنني، ببساطة، وجدت صوتي.

الفصل السادس: نغمة لا تُنسى

لم تكن كل النغمات عذبة، ولا كل المسارات ممهدة. فبعد مهرجان الرباط، عدت إلى فاس وأنا أظن أن الأبواب ستُفتح، وأن العود سيقودني من نجاح إلى آخر. لكن المدينة، رغم حبها، كانت صامتة. لا دعوات، لا عروض، لا مهرجانات. فقط أنا، وعودي، وغرفة صغيرة تزداد صمتًا كل مساء.

مرت أسابيع وأنا أتمرن بلا هدف واضح. كنت أعزف، لكن شيئًا ما كان ينقصني. الحماسة التي كانت تملأني بدأت تخفت، كشمعة في ممر طويل. بدأت أتساءل: هل كانت الرباط مجرد صدفة؟ هل كنت مجرد عابر نغمة؟

ثم جاء ذلك اليوم. دعاني أحد الأصدقاء للمشاركة في مسابقة موسيقية محلية. لم تكن كبيرة، لكنها كانت فرصة. أعددت قطعة جديدة، مزجت فيها بين الملحون والموسيقى الأندلسية، ووضعت فيها كل ما تعلمته. تمرّنت لأيام، حتى صارت أصابعي تعرف طريقها دون أن أنظر.

في يوم العرض، دخلت القاعة بثقة. الجمهور كان قليلاً، لكنني لم أبالِ. جلست، عزفت، وأنهيت القطعة بابتسامة. لكن التصفيق كان خافتًا، ولجنة التحكيم بدت متحفظة. في نهاية الأمسية، لم يُنادَ اسمي. لا جائزة، لا تنويه، لا حتى كلمة.

خرجت من القاعة والعود على ظهري، لكنه كان أثقل من أي وقت مضى. شعرت أنني خذلته، أو أنه خذلني. جلست على درج حجري قرب الساحة، والدمعة تحاول أن تجد طريقها. لم أبكِ، لكنني شعرت أنني أودّ لو أضع العود جانبًا، وأمشي دون أن ألتفت.

في تلك الليلة، لم أعزف. ولم أتناول العشاء. فقط جلست في غرفتي، أستمع إلى الصمت. لكن في منتصف الليل، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب. كانت أمي، تحمل كوب شاي، وابتسامة لا تشي بشيء.

قالت: “سمعت أنك ما ربحتيش.”
أومأت برأسي.
قالت: “عارفة، ولكن واش العود ديالك كيبكي؟”
نظرت إليها، مستغربًا.
أكملت: “العود ما كيعرفش الربح والخسارة، هو كيعرف الصدق. وإنتا كنت صادق.”

تلك الكلمات، البسيطة، اخترقتني. لم تكن عزاءً، بل تذكيرًا. تذكير بأن الموسيقى ليست سباقًا، بل رحلة. وأن كل نغمة، حتى الحزينة منها، لها مكانها في اللحن الكبير.

في اليوم التالي، أخرجت العود، جلست في الفناء، وبدأت أعزف. لم أتمرّن، لم أرتجل، فقط عزفت ما شعرت به. كانت نغمة حزينة، مترددة، لكنها صادقة. وعندما انتهيت، شعرت أنني خففت عن نفسي شيئًا.

منذ ذلك اليوم، بدأت أفهم أن الموسيقى ليست فقط عن التصفيق، ولا عن الجوائز. إنها عن أن تقول ما لا يُقال، أن تلمس ما لا يُلمس. وأن بعض النغمات، حتى لو لم يسمعها أحد، تظل محفورة فيك… نغمة لا تُنسى.

الفصل السابع: اللقاء الأول

كان صباحًا رماديًا من شتاء فاس، حين دخل أستاذ جديد إلى دار الشباب. رجل في منتصف العمر، نحيف، يرتدي معطفًا طويلاً بلون الفحم، ويحمل حقيبة جلدية قديمة. لم يكن يشبه باقي الأساتذة الذين اعتدتهم. كان صامتًا، لكن في عينيه شيء من الحزم، ومن الحنين أيضًا.

اسمه كان الأستاذ عبد الحق. قيل لنا إنه موسيقي محترف، درس في المعهد العالي للموسيقى بالرباط، وعزف في فرق كبرى داخل المغرب وخارجه. لم أكن أعرف إن كان سيهتم بي، أو إن كنت سألفت انتباهه، لكنني كنت أراقبه من بعيد، أدرس طريقته في الحديث، في الوقوف، في لمس العود كأنه يربّت على كتف صديق قديم.

في أول حصة، طلب من كل واحد منا أن يعزف شيئًا. حين جاء دوري، جلست، وضعت العود في حجري، وعزفت قطعة كنت قد ألفتها مؤخرًا، فيها شيء من الحزن، وشيء من الأمل. لم يعلّق أثناء العزف، لكن حين انتهيت، قال بهدوء:
“عندك خامة، ولكنك ما زلت تعزف بأصابعك، ماشي بقلبك كامل.”

تلك الجملة أربكتني. كنت أظن أنني أعزف من قلبي. لكن كلماته لم تكن نقدًا، بل دعوة. ومنذ ذلك اليوم، بدأ شيء جديد.

كان الأستاذ عبد الحق مختلفًا. لم يكن يعلّمنا فقط المقامات والإيقاعات، بل كان يعلّمنا كيف نصغي، كيف ننتظر، كيف نحترم الصمت كما نحترم الصوت. كان يقول:
“الموسيقى ماشي فالأوتار، الموسيقى فالمسافة بين نغمتين.”

بدأت أزوره خارج الحصص. كنت أرافقه إلى مقهى صغير في حي الوداية، حيث كان يجلس كل مساء، يطلب قهوته السوداء، ويخرج دفتراً صغيرًا يدوّن فيه أفكارًا موسيقية. كنت أجلس قربه، أطرح عليه أسئلة لا تنتهي، وهو يجيب بصبر، أحيانًا بكلمات، وأحيانًا بنغمة.

في أحد الأيام، سألته:
“أستاذ، واش يمكن الواحد يعيش غير بالموسيقى؟”
ابتسم، وقال:
“الموسيقى ما كتعيشك، ولكن كتخليك تحس أنك حي.”

تلك الجملة ظلت ترنّ في رأسي لأيام. كنت أراها كمعادلة مستحيلة: أن تعيش بشيء لا يضمن لك العيش، لكن لا معنى للحياة من دونه.

مع مرور الوقت، بدأ الأستاذ يثق بي. دعاني إلى حضور بروفات فرقته، ثم إلى مشاركات صغيرة في حفلاتهم. كنت أصغرهم سنًا، لكنهم كانوا يعاملونني كواحد منهم. وفي كل مرة، كنت أتعلم شيئًا جديدًا: عن الانضباط، عن التواضع، عن أن تكون جزءًا من نغمة جماعية لا تطغى فيها على الآخرين.

وفي إحدى الليالي، بعد حفل صغير في قاعة ثقافية، اقترب مني الأستاذ عبد الحق، ووضع يده على كتفي، وقال:
“دابا، نقدر نقول أنك كتبدأ تعزف بقلبك.”

لم أجب. فقط ابتسمت. لأنني كنت أعلم أنني لم أصل بعد، لكنني على الطريق. وأن هذا اللقاء، هذا الأستاذ، كان أول من فتح لي بابًا نحو الموسيقى كحياة، لا كهواية.

الفصل الثامن: الوتر المكسور

كان كل شيء يسير في هدوء نسبي. الحصص مع الأستاذ عبد الحق صارت موعدًا أسبوعيًا مقدسًا، والموسيقى بدأت تتسلل إلى تفاصيل يومي كأنها صلاة. كنت أتمرّن بانتظام، أشارك في أمسيات صغيرة، وأشعر أنني أخيرًا وجدت إيقاعي.

لكن الحياة، كما تعلّمت لاحقًا، لا تسير على نغمة واحدة.

في أحد الأيام، وبينما كنت أتمرّن على قطعة صعبة من مقام الحجاز، انقطع أحد أوتار العود فجأة. صوت الطقطقة الحادّ اخترق الغرفة، وتوقف كل شيء. نظرت إلى العود كأنني لا أعرفه. كان الوتر الرابع، أوتاري المفضّل، الذي كنت أبدأ به كل عزف. شعرت كأن شيئًا في داخلي انكسر معه.

ذهبت في اليوم التالي إلى محل الآلات الموسيقية في باب الخوخة. صاحب المحل، رجل مسنّ يعرفني منذ بداياتي، قال وهو يمدّ لي وترًا جديدًا:
“الوتر اللي كيتقطع، راه كيتبدل، ماشي نهاية الدنيا.”
ابتسمت، لكنني لم أكن أصدّق تمامًا.

عدت إلى البيت، ركّبت الوتر الجديد، لكن الصوت لم يكن كما كان. بدا غريبًا، نشازًا، كأن العود نفسه يرفضه. حاولت التعديل، حاولت التمرّن، لكن شيئًا ما لم يعد كما كان. لم يكن الأمر في الوتر، بل في داخلي.

في تلك الفترة، بدأت الدراسة تزداد صعوبة. الامتحانات تقترب، وضغط العائلة بدأ يتسلل. أبي صار أكثر صمتًا، وأمي أكثر قلقًا. كانوا يريدون لي النجاح، الاستقرار، وظيفة تضمن لي “المستقبل”. أما أنا، فكنت أعيش بين ورقتين: ورقة الامتحان، وورقة النوتة.

ثم جاء القرار الصعب. قررت أن أتوقف عن العزف مؤقتًا. وضعت العود في خزانة الملابس، وغطّيته بقطعة قماش بيضاء. لم أودّعه، فقط أخفيته، كأنني أخفي جزءًا مني لا أريد أن أراه.

مرت أسابيع. لم أعزف، لم أزر دار الشباب، لم أتحدث مع الأستاذ عبد الحق. كنت أستيقظ، أدرس، أتناول الطعام، وأنام. كل شيء صار رتيبًا، بلا نغمة، بلا لون.

وفي أحد الأيام، بينما كنت أرتّب كتبي، سقط دفتر صغير من بين الأوراق. كان دفتري القديم، الذي كنت أدوّن فيه مقاطع موسيقية وأفكارًا. فتحت صفحة منه، فوجدت جملة كتبتها ذات مساء:
“إذا نسيت لماذا بدأت، اسأل قلبك، لا عقلك.”

تلك الجملة كانت كصفعة ناعمة. جلست، قرأت باقي الصفحات، وتذكّرت. تذكّرت ليالي فاس، صوت أمي، نظرة أبي، همسة خديجة، ضحكة ياسين، تصفيق الرباط، كلمات الأستاذ عبد الحق، وحتى لحظة انقطاع الوتر.

في تلك الليلة، فتحت الخزانة، أخرجت العود، أزلت الغطاء، جلست، ومددت يدي. كان الوتر الجديد قد استقر، وصوته صار مألوفًا. عزفت قطعة بسيطة، ثم أخرى. لم أكن في أفضل حالاتي، لكنني كنت أتنفّس من جديد.

في اليوم التالي، ذهبت إلى دار الشباب. الأستاذ عبد الحق كان هناك، جالسًا في الزاوية، يدوّن شيئًا في دفتره. حين رآني، لم يقل شيئًا. فقط ابتسم، وأشار إلى الكرسي المقابل.

جلست، وبدأت أعزف.

الفصل التاسع: حين يتكلم العود

لم يكن العود يومًا مجرد آلة موسيقية بالنسبة لي. كان رفيقًا، مرآة، ودفترًا مفتوحًا أدوّن فيه ما لا أستطيع قوله. لكنني لم أكن أعلم أنني، في لحظة ما، سأجلس أمام جمهور لا لأعزف فقط، بل لأتكلم من خلاله.

كان ذلك في ربيع فاس، حين نظّمت دار الشباب أمسية خاصة بعنوان “أصوات شابة”. طُلب من كل مشارك أن يقدّم شيئًا من تأليفه، لا مقتطفًا من تراث أو تقليد. كانت تلك أول مرة أُطلب فيها أن أكون أنا، لا ظلّ أحد.

جلست في غرفتي لأيام، أبحث عن نغمة تشبهني. جربت مقامات مختلفة، استحضرت ليالي فاس، لحظات الرباط، خيباتي الصغيرة، وابتسامات أمي. شيئًا فشيئًا، بدأت المقطوعة تتكوّن. لم تكن معقدة، لكنها كانت صادقة. فيها شيء من الحنين، شيء من التحدي، وشيء من الصمت.

سميتها”حديث الظلال”.

في يوم الأمسية، كانت القاعة ممتلئة. وجوه مألوفة وأخرى غريبة. الأستاذ عبد الحق كان في الصف الأول، يبتسم بهدوء. أمي جلست في الخلف، ترتدي جلبابًا أزرق، وعيناها تلمعان. حتى أبي حضر، متأخرًا كعادته، وجلس قرب الباب، كأنه لا يريد أن يُرى، لكنه هناك.

حين نودي اسمي، شعرت برجفة خفيفة في يدي. صعدت إلى المنصة، جلست، وضعت العود في حجري، وأغمضت عيني. لم ألقِ كلمة، لم أشرح شيئًا. فقط بدأت.

كانت النغمة الأولى كهمسة، ثم تلتها أخرى، ثم ثالثة. لم أكن أعزف لحنًا محفوظًا، بل كنت أسترجع نفسي. كل انتقال بين مقام وآخر كان كأنه خطوة في ممر طويل، وكل وقفة قصيرة كانت كأنني أتنفس. شعرت أنني لا أتحكم في العود، بل هو من يقودني.

وحين انتهيت، لم أفتح عيني فورًا. بقيت لحظة في الصمت، أستمع لصدى النغمة الأخيرة وهي تتلاشى في القاعة. ثم جاء التصفيق. لم يكن صاخبًا، بل دافئًا، ممتدًا، كأن الجمهور فهم ما لم أقله.

بعد العرض، اقترب مني الأستاذ عبد الحق، لم يقل شيئًا، فقط صافحني بقوة. ثم همس:
“دابا، العود تكلم.”

أما أبي، فقد انتظرني خارج القاعة. حين رآني، وضع يده على كتفي، وقال:
“ما فهمتش كلشي، ولكن حسّيت بكلشي.”

تلك الجملة كانت كافية. لم أعد أحتاج إلى اعتراف، ولا إلى جائزة. كنت أعلم أنني وصلت إلى لحظة فارقة: لحظة أصبح فيها صوتي واضحًا، لا في الكلمات، بل في النغمات.

ومنذ تلك الليلة، لم أعد أعزف فقط. صرت أكتب. أدوّن مقطوعاتي، أسمّيها، أرسلها إلى أصدقاء، أشاركها في أمسيات. صار للعود صوت، وصار لي اسمي.

الفصل العاشر: بين نغمتين

كان العام الدراسي يقترب من نهايته، ومعه اقتربت لحظة الحقيقة. امتحانات الباكالوريا تلوح في الأفق كجدار لا يمكن تجاوزه إلا بثمن. في البيت، صار الحديث كله يدور حول الدراسة، المستقبل، “الاختيارات الجدية”. أما أنا، فكنت أعيش في مفترق طرق، بين نغمتين: واحدة اسمها الموسيقى، والأخرى اسمها الواقع.

كنت أستيقظ باكرًا، أراجع دروسي، أذهب إلى المدرسة، أعود، أتناول الغداء، ثم أفتح كتبي من جديد. لكن شيئًا في داخلي كان يختنق. كنت أفتقد العود، أفتقد تلك اللحظة التي أضع فيها أصابعي على الأوتار وأشعر أنني أتنفّس. حاولت أن أوازن، أن أخصص وقتًا للموسيقى، لكن كلما أمسكت بالعود، سمعت صوت أبي في رأسي:
“النجاح الحقيقي هو اللي كيبني المستقبل، ماشي اللي كيصفقولو الناس ساعة وينساوك.”

لم يكن أبي قاسيًا، بل خائفًا. كان يرى فيّ مشروع رجل، لا مشروع فنان. أما أمي، فكانت تراقبني بصمت، لا تشجعني ولا تمنعني، فقط تضع الشاي قرب كتبي، وتقول: “الله يعاونك.”

في أحد الأيام، وبينما كنت أراجع مادة الفلسفة، رنّ هاتفي. كان الأستاذ عبد الحق. قال بصوته الهادئ:
“كاين عرض موسيقي في مكناس، وبغيتك تكون معانا. ماشي كبير، ولكن مهم.”

ترددت. العرض كان بعد أسبوع، في قلب فترة الامتحانات. قلت له:
“ما نقدرش، عندي بزاف ديال القراية.”
سكت لحظة، ثم قال:
“أنا ما كنضغطش عليك، ولكن تذكّر: الفرص ما كتسولش على التوقيت، كتجي وتمشي.”

أغلقت الهاتف، وجلست في صمت. شعرت كأنني أُجبر على اختيار أحد قلبيّ: الأيسر ينبض بالموسيقى، والأيمن بالمسؤولية. وفي تلك الليلة، لم أنم.

في اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة، لكن ذهني كان في مكناس. تخيّلت نفسي على الخشبة، أسمع تصفيق الجمهور، أرى الأستاذ عبد الحق يبتسم، وأشعر أنني في مكاني. ثم عدت إلى الواقع: الامتحانات، التوقعات، الخوف من الفشل.

في المساء، جلست مع أبي. قلت له:
“بغيت نمشي نشارك فواحد العرض، ولكن ما بغيتش نخيّب ظنك.”
نظر إليّ طويلاً، ثم قال:
“أنا ماشي ضد الموسيقى، ولكن خفت عليك. خفت تولي تحلم بزاف وتنسى الأرض.”
أجبته:
“ولكن حتى الحلم خاصو أرض باش يكبر.”

ابتسم، لأول مرة منذ مدة، وقال:
“سير، ولكن رجع بالقراية.”

ذهبت إلى مكناس. عزفت. لم يكن العرض الأكبر، ولا الجمهور الأوسع، لكنه كان الأصدق. عزفت مقطوعتي الجديدة، التي سميتها *”بين نغمتين”* ، وكنت أعني بها تمامًا ما أعيشه. وعندما انتهيت، لم أكن بحاجة لتصفيق. كنت قد اخترت: لن أترك الموسيقى، ولن أترك الدراسة. سأمشي بين النغمتين، حتى أجد لحني الخاص.

الفصل الحادي عشر: الخطوة الأولى

انتهت امتحانات الباكالوريا كما تنتهي العواصف الصيفية: بسرعة، لكن بآثار لا تُمحى. خرجت من آخر قاعة امتحان وقلبي يطرق كعودٍ فقد أوتاره. لم أكن أعلم إن كنت قد نجحت، لكنني كنت أعلم شيئًا واحدًا: أنني لم أعد الشخص نفسه الذي دخل المدرسة قبل سنوات.

في تلك الأيام التي تلت الامتحانات، عشت فراغًا غريبًا. لا دروس، لا مراجعة، لا جدول زمني. فقط وقت مفتوح، وعود ينتظر. عدت إلى العزف بشغف مضاعف، كأنني أستعيد أنفاسي بعد غطسة طويلة. كنت أتمرّن لساعات، أؤلف مقاطع جديدة، وأدوّن أفكاري في دفاتر صغيرة بدأت تتراكم على رفوف غرفتي.

ثم جاء اليوم المنتظر. ظهرت النتائج.

نجحت.

لم أصرخ، لم أقفز، فقط جلست في صمت، وابتسمت. شعرت أنني عبرت جسرًا، وأنني الآن على الضفة الأخرى. لكن السؤال الحقيقي لم يكن عن النجاح، بل عن الوجهة التالية.

في المساء، جلست مع أبي. كان يحمل كوب شاي، يقرأ جريدة، كعادته. قلت له بهدوء:
“بغيت ندفع للمعهد العالي للموسيقى فالرباط.”
أنزل الجريدة ببطء، نظر إليّ، ثم قال:
“وماشي شي كلية ولا مدرسة عليا؟”
أجبته:
“الموسيقى ماشي هواية عندي، بابا. هي حياتي.”

طال الصمت. ثم قال:
“واش متأكد؟ راه الطريق ماشي ساهل.”
قلت:
“عارف. ولكن ما نقدرش نعيش بلاها.”

هزّ رأسه، ثم قال:
“إيوا سير، ولكن ديرها بجد. ماشي لعب.”

في اليوم التالي، ذهبت إلى مكتب التسجيل. حملت ملفي، وقلبي. وقفت في طابور طويل من الحالمين، كل واحد يحمل آلة، أو دفتر نوتة، أو مجرد حلم. حين جاء دوري، ناولت الموظف أوراقي، ووقّعت على استمارة الترشيح. شعرت كأنني أوقّع عقدًا مع نفسي.

بدأت مرحلة التحضير للامتحان الشفوي والتطبيقي. الأستاذ عبد الحق ساعدني، درّبني على المقامات، على القراءة الموسيقية، على الوقوف أمام لجنة. قال لي:
“ما تخافش من اللجنة، خاف من اللحظة اللي تعزف فيها بلا صدق.”

وفي يوم الامتحان، سافرت إلى الرباط. المدينة بدت أقل رهبة هذه المرة، كأنها تذكرني. دخلت المعهد، مبنى قديم تفوح منه رائحة الخشب والنوطات. جلست في قاعة الانتظار، أراقب الوجوه المتوترة، وأحاول أن أتنفس بعمق.

حين نودي اسمي، دخلت القاعة. لجنة من ثلاثة أساتذة، أوراق، أقلام، وبيانو في الزاوية. طلبوا مني أن أقدّم نفسي، ثم أن أعزف. اخترت مقطوعتي “حديث الظلال”، لأنها تشبهني. عزفتها كما لو كنت أروي لهم حكايتي.

ثم طلبوا مني قراءة نوتة قصيرة، ثم عزفها. ارتبكت قليلاً، لكنني تداركت نفسي. في النهاية، شكروني، وطلبوا مني الانتظار.

خرجت من القاعة وأنا لا أعلم إن كنت قد أبهرتهم، لكنني كنت أعلم أنني فعلت ما بوسعي. جلست في الحديقة الصغيرة أمام المعهد، أغمضت عيني، وسمعت في داخلي نغمة جديدة. لم أكن أعرف اسمها بعد، لكنها كانت بداية شيء مختلف.

كانت تلك، بلا شك، الخطوة الأولى.

*الفصل الثاني عشر: أوتار الرباط*

الرباط لم تكن فاس. كانت مدينة بأرصفة واسعة، ببحر لا ينام، وبموسيقى لا تشبه تلك التي نشأت عليها. في صباحي الأول كطالب في المعهد العالي للموسيقى، شعرت كأنني أبدأ من جديد، كأنني طفل يتعلم الأبجدية، لكن هذه المرة، أبجدية النغم.

الأساتذة كانوا صارمين، لا يبتسمون كثيرًا، لكنهم يعرفون كيف يوقظون فيك شيئًا نائمًا. زملائي جاؤوا من مدن مختلفة، كل واحد يحمل لهجة، وآلة، وحلمًا. لم أعد “الموهوب الصغير” كما كنت في فاس، بل صرت نقطة في بحر من المواهب. وهذا ما كان يخيفني… ويحمّسني.

في أول أسبوع، شعرت بالضياع. المقامات التي كنت أظنني أتقنها، بدت لي فجأة معقدة. النظريات، الهارموني، التمارين اليومية، كلها كانت كأنها تقول لي: “الموهبة وحدها لا تكفي.” لكنني لم أهرب. كنت أستيقظ باكرًا، أتمرّن، أدوّن، أستمع، وأعيد. شيئًا فشيئًا، بدأت أجد إيقاعي وسط هذا الزخم.

وفي مساء خريفي، بعد شهرين من الدراسة، نظّم المعهد أمسية للطلبة الجدد. طُلب من كل واحد أن يقدّم مقطعًا قصيرًا يعكس هويته الموسيقية. جلست في غرفتي، أفكر: ماذا سأعزف؟ هل أختار شيئًا كلاسيكيًا لأُبهر اللجنة؟ أم أعود إلى جذوري؟

اخترت أن أكون صادقًا.

في تلك الليلة، صعدت إلى الخشبة، وجلست، وقلت:
“أنا من فاس. وهذه المقطوعة كتبتها هناك، تحت ضوء القمر، في فناء بيتنا.”
ثم عزفت. كانت المقطوعة مزيجًا من الملحون، والأنغام الأندلسية، ولمسة من الحزن الذي حملته معي من ليالي الامتحانات، ومن لحظات الشك.

حين انتهيت، لم أسمع التصفيق فورًا. فقط صمت. ثم، شيئًا فشيئًا، بدأ التصفيق يتصاعد، صادقًا، دافئًا، كأن الرباط نفسها تفتح لي ذراعيها.

في تلك اللحظة، أدركت أنني لم أترك فاس خلفي. لقد حملتها معي، في نغمي، في أصابعي، في قلبي. وأن الرباط ليست نهاية الرحلة، بل بداية فصل جديد.

الخاتمة : 

الآن، وأنا أكتب هذه السطور، بعد سنوات من ذلك اليوم، ما زلت أذكر كل نغمة، كل لحظة، كل ارتباك. صرت أستاذًا للموسيقى، أدرّس في نفس المعهد الذي احتضنني، وأعزف في مسارح لم أكن أحلم بها. لكنني، في كل مرة أضع العود في حجري، أعود إلى هناك… إلى فناء بيتنا في فاس، إلى الزربية الحمراء، إلى صوت أمي وهي تقول: “سمّعنا شي حاجة زوينة.”

الموسيقى لم تكن طريقًا سهلاً، لكنها كانت طريقي. علمتني أن أكون صبورًا، أن أكون صادقًا، أن أستمع قبل أن أعزف. علمتني أن الحياة، مثل العود، تحتاج إلى شدّ وتوازن، إلى صمت بين النغمات، وإلى قلب لا يخاف أن يُخطئ.

وهكذا، بين المدرسة والعود، بين فاس والرباط، بين الخوف والحلم… وجدت نفسي.

وجدت صوتي.

وجدت نغمتي.

Loading...