حين يتكلم الماء وتسقط البلاغات: آسفي في مواجهة الحقيقة العارية

المغربية المستقلة  : بقلم سيداتي بيدا

لم تكن فيضانات آسفي مجرد أمطار غزيرة، بل كانت لحظة صدق قاسية، لحظة تكلّم فيها الماء بصوت أعلى من كل البلاغات، وكشف ما عجزت الخطب عن إخفائه. في ساعات قليلة، انهارت رواية “التنمية” كما تنهار الجدران الهشة، وظهر الواقع بلا مساحيق: مدينة تُدار بالواجهة، وتُترك في العمق لمصيرها.

ما حدث لم يكن طارئًا ولا استثناءً من القاعدة. كان نتيجة منطقية لتراكم سنوات من التخطيط الأعور، والتدبير المرتجل، والمشاريع التي تُقاس بعدسات الكاميرا لا بقدرتها على حماية الإنسان. أحياء غرقت بالكامل، منازل تحولت إلى مصائد للماء، وأسر وُضعت وجهاً لوجه أمام الخطر، دون إنذار، دون تجهيز، ودون أي إحساس بأن هناك من استبق الكارثة.

في قلب هذا المشهد الموحل، حيث اختلط الطين بالصمت الرسمي، برز فعل واحد كاشف وفاضح في آنٍ واحد. الناشط البيئي سعد عبيد لم ينتظر تعليمات، ولم يختبئ خلف الأعذار. تحرك بضمير حي، وبادر بجمع ما يقارب 45 مليون سنتيم لفائدة المتضررين. لم تكن المبادرة مجرد دعم مادي، بل كانت محاكمة أخلاقية صريحة لمن يفترض فيهم التدبير والحماية. صفعة هادئة، لكنها موجعة، في وجه عجز مؤسساتي مزمن.

أي مفارقة أكثر قسوة من أن يُنقذ المجتمع المدني ما عجزت عنه ميزانيات ضخمة ومجالس منتخبة؟
مدينة صُرفت عليها الملايير، وتباهت بملاعب ومنشآت وواجهات إسمنتية، فشلت في أول اختبار حقيقي: مطر. طرقات تحولت إلى مجارٍ، قنوات صرف لفظت إفلاسها، ومرافق عمومية كشفت أن “الإنجاز” كان مجرد صورة بلا عمق.

فيضانات آسفي لم تفضح فقط هشاشة البنية التحتية، بل عرّت غياب الرؤية الاستباقية، وانعدام ربط المسؤولية بالمحاسبة، وثقافة تدبير لا تتحرك إلا بعد وقوع الكارثة، وغالبًا بالكلام فقط. تنمية لا تضع الإنسان في قلبها تتحول، عند أول أزمة، إلى تهديد مباشر لحياته.

صحيح أن التضامن أنقذ ما يمكن إنقاذه، لكن لنعترف بوضوح: المبادرات الفردية ليست حلًا دائمًا، ولا يجب أن تتحول إلى غطاء لفشل بنيوي. ما وقع في آسفي إنذار أحمر، لا يحتمل التجميل ولا التأجيل.

آسفي لا تحتاج إلى بلاغات مطمئنة، ولا إلى افتتاحات موسمية.
آسفي تحتاج إلى قرارات شجاعة، وبنية تحمي الحياة، وتنمية تُقاس بسلامة المواطن… لا بلمعان الإسمنت.

Loading...