المغربية المستقلة : مريم أحجام
الفصل الـأوَّل :
– المشهد الـأوَّلُ :
في قصرٍ فسيحٍ يعيشانِ شَابَّيْنِ ؛ ‘ أليريانو ‘ و هوَّ شَابٌّ طويلٌ جميلُ الملمح ، أشقر الرَّأس . و ‘ صوفيا ‘ و هيَّ فتاةٌ طويلةُ القامة نحيفة الجسم ، ذات شعر أسود طويل كأنَّهُ قطعةٌ من اللَّيلِ. . .
يعانان هاذينِ الشَابَّيْنِ من قسوةِ أبٍ تقليديٍّ عليهما . يريدُ أن يمنعُ حبّهما و يقطعُ علاقتهما .
صوفيا : يا إلهي. . .!! لَقد تغيَّرتِ الأجواء ، و بدا الظلام يُسدل بخيوطهِ على السماءِ معلنًا عن ليلةٍ سوداءٍ .
اليريانو : ها قد حلَّ أيلول ، و زادَ الحنين و الإشتياق يعذِّبانِ العاشقين ، فما أجملُ فصل الشِّتاء وما أروعُ أوقاته. . .! و ما أصعبُ فقدان الأحبَّة. . .!
صوفيا : كم أحبُّ جوَّ الشِّتاء و سحر غيومه و طقسه البهيّ ، و كم تروقني الطَّبيعة الخلَّابة و كُلُّ ما يفيضُ منها من جمالٍ و رونقٍ .
يقتربُ أليريانو من النَّافذةِ الواسعةِ حيثُ يشاهدُ قطرات المطر تتهاطلُ على وريقاتِ الشَّجرِ في الحديقةِ ، و يقولُ : أُنظري معي و تأمَّلي قطرات المطر التي تتهاطلُ ، لا شكَّ أنَّ هذا فصلٌ من فصولِ أحلامنا . ثمَّ ينقلبُ إلى ‘ صوفيا ‘ التي كانت تجلسُ على أريكةٍ وسطَ الصَّالةِ تعلِِّّقُ عينيها في لوحةِ ‘ عاشقينِ في الطَّبيعةِ ‘ للفنَّانِ الألماني ‘ لودفيج ديتمان ‘ أمامها على الجدارِ ، و يقولٌ : تعالِ نجلسُ سويَّا أمام المدفأة و مدِّ لي أصابعكِ الخمسة لتمسكُ بأصابعي لكي نقضي أحلى ليالي غرامنا و أرقى لحظات حبُّنا .
تلتفتُ صوفيا إلى أليريانو ( في غضبٍ ) و تقولُ : حبيبي البرئ ، أفق من حلمك و استسلم للواقع. .و دعني أخبرك رغم أنِّي ما أقوله لك ليس خبرًا سعيدًا ، و لكن هذه هيَّ الحقيقة و لابدَّ من أن أصارحك بها بدلًا من أبقى أكتمها و أخفيها عليك و هيَّ أنَّ علاقتنا إنتهت و لم يَعُدْ ما كان بيننا إلَّا ذكريات ، أعلم يا أليريانو أنَّ هذا القرار قد أفجعك و لكن الواقع هكذا .
أليريانو : (بوادر الحزن العبوس ترتسم على مُحياه ) كفى. . .! امنحيني فرصة ، قولي أحبّك ، لينكسر جليد حبّنا و ينمو ربيع العشق من جديدٍ. .
لتتلاشى المستحيلات. .
لتنتهي المسافات. .
نكتفي ببعضنا و نعيش كُلَّ يوم عيد. .
قولي أحبّك و أمسكي يدي ، إنَّ أصابعي تشتهي أصابعك ،
إذا هجرتني لا وطن لي ،
أنت وطني و بلادي و مُدني ، أنت كُلُّ شيئ ، أنت الملاذ والسكينة. .بل أنت الوجود بأكملهِ .
أنت أمنيتي و أملي وحظِّي السَّعيد. .
قولي أحبّك وأرحمي قلبي الذي ينزفُ جرحاً و ألماً ،
قولي أحبّك ، إنَّ حبّك يشفيني و يلملمُ جراحي .
إنَّ حياتي بدونكِ كاللَّيل الطَّويل ،
ظلامي مشتدٌّ ، حزني ثقيل. .
قولي أحبّك ، لأدفن عمري في حضنك ، فمن أضاعَ وطنه لا أرضاً تسعه. .
صوفيا : كف رجاءًا. . .! إنَّ الحُبَّ بريئ و القلب يرتكبُ الأخطاء ، حبّنا كان خطأ منذُ البداية و لا مفرّ من الهجرانِ .
أليريانو : اسمعي صوت قلبك و لا تخافين من الحب ، لماذا نجازف بإنهاءِ علاقتنا. . .! لماذا نظلم حبّنا البريئ. . .؟
إقتربي و أمهليني فرصة أن أضمّك إلى حضني. .إنَّ ذراعي لا تتَّسعُ إلا لكِ ،
إقتربي ليزهرُ قلبي البائس ، كما يزهرُ في الرَّبيعِ اليابسِ. .
يضجُّ الورد بالألوانِ و تكثرُ الحدائق في المكانِ. .
تنتهي المسافات و يتوقَّفُ الزمن ، و ينطفئ لهيب الحرمان. .
أمسكي يدي و أرقصي معي في هذا المساء الشّتوي الممطر تحت ظلّ السَّماء الرَّمادي زخّات المطر تشهد عشقنا. .
دعيني أنظر لعينيك بجنونِ و لهفةِ المشتّاق ، إنَّ أكثر ما أشتاقه في الشِّتاءِ عينيك الَّذانِ يأتيانِ بزرقةِ السَّماءِ أستنشق الشَّمس من نظراتك. .
خذيني إلى مسرحِ الرَّقصِ و أرقصي معي رقصة العمر. .أرقصي معي حتَّى نهاية الحُبّ على نغماتِ كمانٍ ملتهبٍ على شرفِ جمالك. .
تقتربُ صوفيا من أليريانو و الدُّموع تتدفَّقُ من عينيها. .فتهبطُ على خدَّيها و تلتقي عند أطرافِ فمها ، ثمَّ تمسكُ يديهِ الإثنتينِ و تقولُ : أسكت و لا تزد كلمة ، دعني أذهب و لا تعذبني أرجوك. .
أليريانو : كيف أتقبَّلُ دونكِ الحياة بعد هذا اليوم الكئيب. . .؟
و كيف أتحمَّلُ بعدي عليك و الحنين سيذبحني. . .؟
أخشى أن يطول انتظاري و اللَّيل يعودُ أطول. .
تجفّ أسهاري و يزداد الشوق ثقلاً عليَّ. .
صوفيا : ( و هيَّ تنظرُ لعيناي أليريانو في رقَّةٍ و حنانٍ ) علاقتنا انتهت هذا ما في الأمر ، و لم يَعُدْ أيِّ هيامٍ أو حُبٍّ بيننا .
اليريانو : إنِّي أكادُ أجنُّ لو افترضتُ أنَّ علاقتنا إنتهت ، و لكن عليَّ تقبُّل حقيقة الفراق الأليم. .و أطوي صفحة حياة العشق طيًّا أقطع صلتي بمملكةِ العشَّاق و أعلن عصياني عليها. .فأعودُ إلى قبيلتي حافي القدمينِ سالكًا أشواك دروب البؤساء والتُّعساء متوسِّلًا آلهة العشق و أدفن غريبًا مهجورًا في مقبرةِ الوحدةِ ، لا من يحضرُ مراسيم دفني و لا من يشيِّعُ جنازتي لمثواها الأخير. .هكذا أريدُ نهايتي العبثية .
صوفيا : أليريانو. . .!
أليريانو : هل تقبلي أن تكوني زوجتي. . .؟
سوفي أمسكُ يديكِ إلى الأبدِ بلا خوف و بلا إرتجاف و أعلن حبِّي لكِ أمام العالم و أجعلك طفلة ترقصُ و تلعبُ في حقولِ الياسمينِ. .
تخفضُ صوفيا رأسها إلى الأرضِ و عينيها تفيضانِ بالدُّموعِ : لا. .
تحاولُ صوفيا الإنصراف من الصَّالةِ الواسعة . يشدُّ أليريانو صوفيا من ذراعها بقوَّةٍ و يتعانقا الإثنينِ عناقًا قويًّا .
أليريانو : لماذا تعذِّبينني. . .؟
لماذا مزَّقتي القلب الَّذي أحبَّكِ. . .؟
لماذا أنت مصرَّة على ظلمِ حبِّنا و عكر صفوه. . .؟
صوفيا : إذا تزوَّجتكَ سوف يقتلك أبي و أفقدك إلى الأبدِ. .لا أريدك أن تتآذى بسببي. . .!
أليريانو : ( قلقًا ألهذا السَّبب أردتي أن تنهي علاقتنا. . .؟
صدِّقيني إنَّ الموتَ في حقُكِ ليس خسارة. . .! و البعاد عنك و لو لثواني موت. .جحيم لا يطاقُ. .الموت في حقّكِ خلود و نعيم .
صوفيا : عليك أن تنساني كي تعيش. . .!
أليريانو : أنت قدري و ما للعبدِ أن يُغيِّرُ قدره. . .فهل رأيتِ النَّهرُ يُغَيِّرُ مجراهُ. . .؟
و إذا نسى اللَّيل ظلامه..
و نسى العاشق أحلامه. .
و نسى الرَّبيع ألوانه. .
لا أنساكِ. .!
فكيف أنساكِ و أنتِ في قلبي. .في أنفاسي. .في عقلي حاضرة لم أخُنْ حبِّي لكِ حتَّى في الذَّاكرةِ. . .؟
حاولتُ مرارًا النِّسيان و لكنَّ ذكراك قاومه. .
ذكراك فوق قلبي ، فوق مشاعري. .
فوق عقلي ، فوق تفكيري. .
فوق الرُّحُ ، فوق الإنسان. .فكيف للنِّسيان أن ينزله. . .؟
كيف أنسى عينيكِ الجملتينِ الَّذانِ يبثَّانِ الأمل في روحي ، و بسمتك الجميلة التي تلملمُ كُلَّ جروحي. . .؟
أنت تسكنين أفكاري و ذاكرتي. .
تملئين كُلَّ فراغاتي. .
صوفيا : حبيبي المجنون صدِّقني سيكون هذا أفضل حلّ ، ثق بي سأبقى على عهدِ حبِّنا و إن تزوَّجتُ ألف رجل. .
يتقدَّم أليريانو إلى رأسِ الصَّالةِ ( باكيًا ) أثق بك و لا أثق الرَّحيلُ. .
فمن ضمن لنفسه أن يكون غذًا أو لا. .
أخشى أن ينتهي أجلي قبل اللِّقاء. .فكيف أرتاح في قبري و كيف تصعد روحي بهدوءٍ إلى السَّماءِ. . .؟
صوفيا : حبيبي أرجوك كف عن البكاء. . .؟
دمعك يسقط في قلبي كالجمرة الحارقة .
أليريانو : حبيبتي حتَّى و إن كان العشق حرام ، آخر عناق عانقيني و من بردِ الفراق أدفيني. .إنِّي مشتاق أنزعي شوقي و احتويني. .ثمَّ ارحلي عن عمري و أتركيني. .
عانقيني بشدَّةٍ حتَّى تمتزج أنفاسك بأنفاسي. . يتقطَّرُ العشق من شفتيكِ و يملأُ كاسي. .
أسكرُ قبل الوداع ، و بعده أقضي بقيَّة اللَّيل أطاردُ طيفكِ و الأنغام في كونٍ من شوقٍ و هيامٍ .
يجلسانِ أليريانو و صوفيا على كنبةٍ في رأسِ الصَّالةِ و تمدُّ صوفيا ذراعها تطوِّقُ عنق أليريانو و ينهارُ أليريانو تحت وطأة الدُّموع .
– المشهد الثَّاني :
ينتفحُ الباب في غضبٍ و يدخلُ الأب أوركاديو و هوَّ رجلٌ ضخمُ الجسمِ ذو عينينِ جاحظتينِ تتطايرُ منهما اللَّعنات.
الأب أوركاديو : يخاطبُ أليريانو ( في غضبٍ و علامات التَّجهُّم بادية على وجههِ ) ألم أقُلْ لك ابتعد عن إبنتي. . .؟
تخيِّمُ على وجهِ أليريانو سحابة غَمٌّ و يمَدَّ يده بلا إرادة يتحسَّسُ عُنقه ، ثمَّ يرَبَّتُ على كتفِ الأبِ أوركاديو و يقولُ هامساً : أنا أحبُّ ابنتك يا عمِّي. .نعم إنِّي أحبُّها .
يوجِّهُ الأب أوركاديو لأليريانو نظراتٍ صارمةٍ و يقولُ : أخرِس. . .!! و كُف عن الكلامِ و اغربْ عن وجهي .
أليريانو : ( محافظاً عن هدوءهِ ) رجاءاً اسمعني و دعني أصارحك بما أشعر بهِ. .أنا أحبُّ ابنتك حُبًّا جمًّا و حتَّى ابنتك تبادلني بنفسِ الحبِّ . أنت تظلمُ حبّنا الطَّاهر و تحسَبُ نفسك أنِّي شخص غير صالح و لست برجلٍ كاملٍ و هذا خطأ لا يُغتفر. .فما أحِسُّ بهِ إزاءَ ابنتكَ هو قمَّة الحبّ .
صوفيا : أبي. . .إنَّ أليريانو محقٌّ في كلامهِ. .ثمَّ أردفت و هي تحاولُ الإمساك بيدِ والدها : أنت تقسو على حبِّنا يا أبي و تقفُ كحجر عاثر في طريقنا. .دعكَ من هذا التعجرف و الإستهتار و تصرَّف بحكمةٍ ورزانةٍ ، و ثق أنَّنا نحبُّ بعضنا البعض. .و أليريانو إنسانٌ رقيقٌ و محترم .
الأب أوركاديو : إنَّ ما يهمُّني يا إبنتي هو مصلحتك و سعادتك و الحبُّ بالنِّسبةِ لي وهم ، و أنتما مازلتما لا تفهمانِ معنى الحياة ، قد يكون كلامي مبالغٌ فيه و لكن هذا ما يظهر لي يا صوفيا في حبّكما. .أنا أريدُ لكِ رجل يعلِّمكِ كيف تعيشي الحياة و يجعلُ منكِ إمرأة حكيمة و قويَّة .
أليريانو : عمِّي أنا أعلم يقينًا أنَّكَ تُكِنُّ محبَّة لإبنتك ، و لكن يبدو لي أنَّكَ تريدُ أن تدفنُ سعادتها مع رجل لا تحبُّه و لا تبادله بأيِّ مشاعرٍ أو أحاسيسٍ جيَّاشةٍ تنم عن حبٍّ و هيام اتِّجاهه . فكِّر في الأمرِ قبل أن تجازف بأحكامٍ مسبقة ربَّما تندمُ في يومٍ لا ينفعكَ فيهِ الَّندمُ .
الأب أوركاديو : أُكَرِّرُ لكَ مرَّةٍ أخرى. .أنِّي غير مرتاح بما تقولهُ لي ، و لهذا فالحلُّ هو أن تبتعد عن ابنتي .
صوفيا : أبي العزيز. .أنا أحبُّ أليريانو و إنِّي أفضِّلُ أن أموتُ على أن أتزوَّجُ رجل لا أحبُّه .
الأب أوركاديو : ( يزيدُ صوته انفعالًا ) لا تكوني سخيفة و ما تقولين مجرَّد هُراء ، أكادُ أجزمُ أنَّ هذا الشابُّ لا يبشّر عن الخيرِ و لا أمل معه .
أليريانو : عمِّي أنا لا أنوي التخلِّي عن ابنتك أبدًا ، حتَّى و إن كلَّفني الثَّمن حياتي .
يصرخُ لأب أوركاديو مزمجراً في وجهِ أليريانو : حان الوقت أن تُغادر القصر فورًا لأنِّني لم أَعُدْ أطيقُ وجودك هنا ، و إلَّا سأنهي حياتك بين يدي. .كَلاَّ لن أوافقُ على زواجكما و ليحدثُ ذلك ما يحدث .
صوفيا : إذن أقتلني أنا أيضًا يا أبي. . .! ألم تَقُلْ لي يومًا يا أبي تزوَّجي الرَّجل الَّذي ترينَ فيه صورة أبيك. .لقد رأيتُ صورتك في أليريانو. .
تمسَّكا أليريانو و صوفيا بأيدي بعضهما و وقفا أمام الأب أوركاديو كما كانا و قد أصبحا تمثالانِ من حجرٍ .
الأب أوركاديو : ( يبدو قد تأثَّر بالحبِّ الَّذي في أعينهما ) أنا لا أريدُ إلَّا سعادتكِ يا ابنتي الجميلة. .و إذا كان هذا الرَّجل سيمنحك هذه السَّعادة. .فأنا أوافقُ و بشدَّةٍ عن علاقتكما .
أليريانو : أَعِدُكِ يا عمِّي أنِّي سأجعلُ من إبنتك أميرة و أدلِّلها كطفلة صغيرة. .
يخرجُ الأب أوركاديو مكفهرُّ الوجه دامع العينينِ تعلو تقاسيم وجهه الضَّخم ملامح الحزن .
– المشهد الثَّالثُ :
– أليريانو و صوفيا يرقصان رقصًا كلاسيكيًا على سيمفونية بيتهوفن ‘ ضوء القمر ‘ .
يمسكانِ أليريانو و صوفيا بأيدي بعضهما و يركضانِ في سعادةٍ إلى مقدِّمةِ الصَّالةِ. .فيستلقيانِ بظهريهما على الأرضيةِ متمسِّكا الأيدي و هما ينظرانِ إلى السَّقفِ و الفرحُ يغمرهما .
صوفيا : ماذا كان بوسعك أن تفعلُ من أجلي لو لم يوافق أبي على حبّنا. . .؟
أليريانو : كان بوسعي أن أخطفك و في أبعدِ الأكوان أخفيك ، لكي لا يراكِ أحد غيري فيعشقك و أموت من حزني و قهري. .
تنظرُ صوفيا لأليريانو في سعادةٍ و تطبعُ وجهها الصَّغير حمرة تتماشى مع ابتسامتها الخفيفة ، و عينيها الواسعتين يلمعانِ ببريقٍ طفولي ينبِّئ بسعادةٍ عظمى : كيف أنظر للرِّجالِ و أنت أميرهم. . .؟
و كيف لا يغارون منك و أنت أجملهم و أوسمهم. . .؟
و كيف أحاكيهم و سحر الكلام يكون بحضورك. . .؟
أليريانو : حبيبتي لا تشعلين نيران قلبي و تزيدين من لهيب عاطفتي المشتعلة بحبّك. .فمنذُ أن أحببتك أدركتُ كم أنا محظوظ. . .! فلو عبرتُ الأرض طولًا و عرضًا و سألت كُلَّ طفل و كُلُّ شيخ. .
لو بحثتُ في علمِ النِّساء و قرأتُ كُلَّ كتب التَّاريخ لما وجدتُ امرأة تحتوي على كُلُّ أنوثتك. .
فما كان للأنوثة وجود قبلك. .
و ما لها بعدك أيِّ معنَّى. .
أنت الأنثى الَّتي غيَّرت معالم التَّاريخ و خلَّدت اسمها على مرِّ العصورِ. .
فما لكليوباترا و هيباتيا أيِّ قيمةٍ بمقارنتك. .
و ما للأنوثة أيِّ اكتشافٍ أو ظهورٍ إلَّا بعد ولادتك. .
فأنت أسطورة كُلَّ النِّساء. .
احتاروا في وصفِ أنوثتك كُلُّ الكتِّاب و الشُّعراء. . و عليك القصائد تعزف و تُغنَّى .
صوفيا : كُلَّما تَطلَّعتُ في عينيك أشعرُ بحنينٍ يرميني بين أضلعك و هدوء يأخذني منِّي إليك و يجعلني. .
سألتُ عنك العازف و الكمان. .
فقال العازفُ : أنِّك شعر فيهِ كُلُّ أيات الجمال و كُلُّ أبيات الغزل. .
و قال الكمان : أنَّك نغمة مرتَّلة على لحنٍ يمُدُّ القلب بالسَّكينةِ و الإطمئنانِ. .
فاسمحلي حبيبي الولهان بدقائقٍ. .
أنامُ في كهفِ عينكَ العميق. .
فإذا غطَّيتُ نفسي بعينيكَ الجميلتينِ لا شيءٍ يصيبني. .
أليريانو : حبيبتي دعنا نختصر العمر بعناقٍ أزليٍّ و نترك خلفنا كُلَّ حزن و كلُّ همٍّ .
لماذا طريقنا طويلٌ مليئ بالأشواكِ. .
لماذا بين يدي و يديك سرب من الأسلاكِ. .
لماذا حين أكون أنا هنا أنت تكونين هناك. .
فلو كان لي قلبان لعشتُ بواحدٍ و أبقيتُ قلبًا في هواكِ يتعذَّب. .
أنا أحبَّك حاولي أن تساعديني. .
فإن من بدأ المآسي ينهيها. .
و إن من فتح الأبواب يغلقها. .
و إن من شعل النِّيران يطفيها. .
– المشهد الرَّابعُ :
تدخلُ صوفيا إلى غرفةٍ صغيرةٍ جدرانها متشابهة مطليَّة بطلاءٍ أخضرٍ تتخلَّلهُ بعضُ البقع الحمراء و البيضاء تُشكِّلُ بذلك لوحة فنيَّة من تلك اللَّوحات الَّتي تكونُ عبارة عن مزيجٍ من الألوانِ ، و تخرجُ بعد حينٍ مرتديَّة لباسًا تقليديًا يتماشى كثيرًا مع لون بشرتها السَّمراء الَّتي تميلُ إلى البياضِ قليلًا ، حاملةٌ في يدها آلة موسيقيَّة. .فتعزفُ صوفيا عزفًا جميلًا و يرقصُ أليريانو رقصًا شعبيًّا و هما يردِّدانِ معًا :
« يا أيلول خذ أشواقك و امضِ بلا وجع. .كفاك أن تعذِّبُ العاشقين و كفى قلوبنا وجع »
المشهد الخَّامسُ :
يسودُ صمت رهيب يستمرُّ لثوانٍ معدودة و يسمعُ الإثنينِ وقعُ خطوَّاتٍ تقتربُ ، ثمَّ ينفتحُ الباب و تدخلُ شابَّة في غايةِ الجمالِ . ذات عينينِ سودوتينِ و شعر أسود طويل أملس حريري و متدلِّي. .أمَّا وجهها فكان دائري صغير مستنير على قدرٍ عظيمٍ من البراءةِ. .بالإضافة إلى شفاهٍ ورديَّةٍ كشفاه الأطفال. .و كان جسدها نحيف ممشوق القوام متناسق يتماشى مع فستان أسود طويل يغطِّي ساقينِ يميلانِ إلى السمرة قليلًا. . .
يقفُ أليريانو في دهشةٍ و قد اصفرَّ وجهه اصفارًا و المرأة تقتربُ منهُ بخطواتٍ ملكيَّةٍ بطيئةٍ كما لو أنَّهُ قد رأى شبح يقتربُ منهُ ، ثمَّ يتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة و العرق يتصبَّبُ من جبينهِ. .لكن كلماته كانت تخرجُ منطفئة لا يصدر عنها صوت . ثمَّ يتناولُ منديلا يتحسَّسُ جبينه و سرعان ما يعدلُ عن نفسهِ مدَّعيًا اللَّامبالاة و تعلو وجهه ضحكة رقيقة متقطِّعة و هو يقولُ بصوتٍ مرتجفٍ حالهُ و كأنهُ صوت طفلًا باكيًا : هل هذه أنتِ. . .؟ نعم أنت. .لا شبيهَ لكِ. .ميليسا. . .! إنَّ تلك الأيَّام قد مضت في تلك الأماكن البعيدة. .’ نهر نيفا ‘. .’غابة خاخلا كافا ‘ ، و كُلُّ شيء ظلَّ مجرَّدُ ذكريات. . .
ميليسا : ( و قد استولى عليها غضبٌ شدِّيدٌ و استمدَّ بها اضطراب و احمرارَّ وجهها احمرارًا ) أهذا رأيك حقًّا. . .؟
– إنك خائن و محتال. . .! خنتَ أسمى الحاجات الَّتي وهبتها الآلهة للإنسانيَّةِ. .أليس في قلبك مشاعر حب. . .؟
ألم يسع قلبك ذلك الشُّعور الجميل الَّذي يجعلُ من البشر كاهنًا قدِّيسًا. . .؟
ثم استطردت ميليسا تقول : إنك عديم الرَّحمة. .محتال ليس في قلبك أيِّ مشاعرٍ. .أجل ، أنت محتال. . .! وجهك يهفو إلى البراءةِ و الجمال بينما قلبك يهفو إلى الخداعِ و الكذبِ و كُلَّ أنواع المكرّ .
يشحبُ وجه صوفيا و يرتعشُ جسدها النَّحيل الهزيل ارتعاشًا ، و يسقط الكَّمان من يدها و تحسُّ ببرودةٍ شدِّيدةٍ تلسعُ جسدها. .و لكنها تظلُّ صامتة هادئة و يشحبُ وجهها شحَّاب الموت ، ثم تُتمتمُ بكلماتٍ مخنوقة متقطِّعة كادتْ لا تبلغُ حلقها : ماذا يحدث. . .؟
أليريانو. .من هذه. . .؟
ثمَّ على حينِ فجأةٍ تسقطُ على الأرضِ و تظهرُ عليها علامات الموت .
المشهدُ السَّادسُ :
يجيءُ صوتًا جهوريًا أجش ترتجفُ لوقعهِ الأسوارِ ارتجافهَا تحت العاصفةِ سمعهُ الإثنينِ. .يقولُ الصَّوتُ : إنَّ الأنقياءَ في الحبِّ يلجؤونَ إلى جوارِ الآلهةِ المقدَّسةِ. . .و يظهر رجل ضخم وسط الظَّلمة الكاسيَّة لهُ شارب طويل و لحية داكنة مسترسلة على صدرهِ العريضِ . يلبسُ الرَّجل معطف طويل أسود اللَّون و طاقيَّة هي أيضًا سوداء ، و في عنقهِ طوقٍ ذهبيٍّ يتدلَّى منهُ رأس أفعى . يحملُ في يدهِ عصًا تبدو و كأنَّها مصنوعةٌ من الّذَّهبِ .
يقتربُ الرَّجُلُ بخطوَّتٍ بطيئةٍ و كُلَّما اقتربَ زادتْ عصاهُ ارتفاعًا إلى أن صارتْ فوقَ رأسهِ. .فيطرقُ بعصاه على الأرضِ طرقةٍ يرتفعُ صداها ليشملُ القصر و يقولُ : (في غضبٍ ) و هوَّ يوجِّهُ نظرات صارمة إلى أليريانو الَّذي يسجدُ أمام صوفيا ينتحبُ نحيب طفلًا : لا تحاول. .إنَّ روحها قد صعدتْ إلى السَّماءِ و من الآن فإنَّ اسمها هو ‘ الملاك ريميديوس ‘ احفظ هذا الإسم جيدًا أيها الشقيُّ. . .!
يرسمُ الرَّجلُ على نفسهِ إشارةِ ‘ رأسِ أفعى ‘ و يقرأ بعضُ الأدعيَّة و التعاويذ في همسٍ. .ثُمَّ يُتابعُ قائلًا : أنا الكاهنُ ‘ بطرس ‘ حضرتُ إلى هنا بناءًا على طلبِ الكاهنِ الأكبرِ ‘ زوسيما ‘ . حيثُ لجأَ إليهِ ‘ الأب أوركاديو ‘ باكيًا منتحبًا و تذرَّعَ إليهِ بأن ينقذَ ابنتهِ الوحيدة من بلاءٍ قادمٍ ، و لقد رقَّ قلب الكاهن الأكبر لحالِ هذا الرَّجل المؤمن الَّذي جاءَ يسعى و يطلبُ العونَ من خادمِ الآلهةِ. .و لقد أرسلني الكاهن الأكبر إلى هنا مع الأمر بأن أحضركما أنتما الإثنين إلى حجرتهِ المظلمةِ الَّتي لا يدخلها ضوء الشَّمس .
الفصلُ الثَّاني :
– حجرة الكاهن الأكبر .
– المشهد السَّابعُ :
يجلسُ الكاهنَ الأكبر زوسيما على أريكةٍ ضخمةٍ تتوسَّطُ حجرة عريضة مظلمة ، و هو رجل نحيف يرتجفُ جسمه ارتجافًا بفعلِ كبرِ السنِّ . وجهه مخفيٌّ بواسطةِ قناعٍ على شكلِ رأسِ أفعى. .و أمامهُ طاولة عليها مجموعةٌ من الكتبِ الضَّخمة الصَّفراء اللَّون و تمثال ذهبيّ بحجمِ ذراعٍ هو أيضًا على شكلِ رأسِ أفعى ، و عن يمينِ الكاهنِ زوسيما يقفُ ثلاثةً من الكهنةِ المبتدئين حاملينَ في أيديهم الكتاب المقدَّس الَّذي يؤمنون بهِ ، و عن شمالهِ يقفُ رجل عريض وجهه مخفيٌّ بواسطةِ قناعٍ يحملُ في يديهِ سيفٌ و إلى جانبهِ امرأةٍ شابَّة ترتدي ثوب حريري ناعم ، و على رأسها تاج من ذهبٍ. .لكن وجهها يختلفُ تمامًا عن وجوهِ البشرِ . حيثُ فقدَ شكله من كثرةِ الوشومِ المتراكمةِ فوقَ بعضها. .كانت هذهِ الأخرى تحملُ في يدها كتاب و قلم أسود .
يصيحُ الكاهن بطرس : الطَّاعة للكاهن الأكبر زوسيما .
يسجدون الكهنة المبتدئين للكاهنِ بطرس .
الكاهن الأكبر زوسيما يوجِّه نظرات ثاقبة بعينيهِ الجاحظتينِ إلى ميليسا و أليريانو الَّذانِ يسجدانِ عند قدميهِ .
الكاهن الأكبر زوسيما : هل هذانِ هما المخطئانِ. . .؟
الكاهن بطرس : إنَّهما تحت أمركَ و حكمكَ العادل سيِّدي الكاهن الأكبر .
يوجِّهُ الكاهن الأكبر زوسيما الأمرَ إلى ميليسا و أليريانو ( في غضبٍ ) : انهضا و ارفعا رأسكما من الأرضِ .
يرفعان أليريانو و ميليسا رأسيهما بهدوءٍ و جسديهما يرتعشانِ ارتعاشًا و قد بلغ منهما الخوف مبلغ الأعماق من نظراتِ الكاهن الأكبر الثَّاقبةِ و صوتهِ المجلجلِ القويِّ اللَّعين. .فينظرانِ لبعضهما كطفلينِ مذنبينِ .
يطرقُ الكاهن الأكبر زوسيما بعصاهُ على الأرضِ و يقولُ يخاطبُ أليريانو ( في صَّرامةٍ ) : إنَّ فتاةً بريئةً قلبها نقيٌّ كالثَّلج الأبيض اللَّامع. .وجهها مثل القمر المضيء ظُلِمتْ في علاقةٍ أسَّستها معك ، و كانَ الثَّمن حياتها ، لقد اعتقدت الفتاة المسكينة أنَّها على علاقةٍ حقيقيَّةٍ تنم عن حبِّ قويٍّ و آمنت بهذا دائمًا لتكتشفُ ٱخر الأمر أنَّها كانت مخدوعة و قد لُعِبَ بقلبها البريئ لعبة الأطفال ، فماذا كان لها أن تفعل. . .؟
فقد أحبَّت و قلبها لا يحتمل الكره . لقد أغريتها بوجهك الطُّفولي الجميل و أدبك المصطنع إلى أن مرضتْ بحمى حبّك و أعطتك كل الحبّ. .فكذبت عليها بلا رحمةٍ و لا ضميرٍ و لعبتُ بقلبها ذاك الَّذي أحَبَّك . إنَّك لرجلٌ تستحقُّ القتل و سأتولىَّ أنا قتلك بيداي هاتهِ الإثنتينِ ، سأقطعُ رأسكَ بسيفي هذا و أعلِّقهُ على أبوابِ قلعتي لتكونُ عبرةً لغيركَ بحيثُ لا أحد من شعبي يجرؤُ أن يعملُ مثلك أو يفعلُ مثلما فعلت و يلعبُ بقلبِ فتاةٍ ، و لكن ليس الآن. .إنَّ قتلك سوفَ يؤَجَّلُ إلى حينِ انتهاءِ المحاكمةِ و الآنَ. .لك الحقّ أن تدافع عن نفسك .
أليريانو : ( في حزنٍ و غمٍّ ) إنَّني أحببتُ ‘ ريميديوس ‘ حبًا جمًا لم أشعر بهِ قط في حياتي اتِّجاه امرأة. .بل حتَّى ميليسا الواقفة أمامي لم أبادلها نفس الحبّ ، لقد عرفت الشُّعور الصَّحيح بالحبِّ الصَّادقِ. .الحبّ الإلهي و آمنتُ بهِ مع ‘ ريميديوس ‘ ، لقد عرفتُ الإيمانَ بالحبِّ معها . حيثُ كانت هيَّ معبدي و كنتُ أرى فيها عين الآلهة الصَّافية المخلصة . أنا رجلٌ لا يؤمنُ بالآلهةِ و لا الكهنةِ و المعبدِ. .و أعترفُ بذلك بلََا خوفٍ و لا خجل. .و أنا أعرفُ أنَّ عقابي سوفَ يكونُ صارمًا ، و لكنَّني آمنتُ بريميديوس ، إنَّ ‘ ريميديوس ‘ كانت هيَّ الآلهة و الكهنة و المعبد بالنسبة لي. .فقد اجتمعت فيها كُلُّ صفات البراءة و الجمال و كُلُّ ما خلقتِ الآلهة من صفاتٍ تعظيميةٍ في الإنسانِ . و لقد كانت مؤمنةٌ بالحبِّ الإلهي الخالد و ملكتٌ منها أسمى الحاجات إلى الحبِّ و الإيمانِ و الشَّجاعةِ و هيَّ صفات لا تملكها النُّفوس الضَّعيفة الآثمة. .إنَّني آثمٌ أعترفُ ، و لكنني أيضًا صادقٌ و صدقي لا ريبَ فيهِ و قلبي دليل صدقي . لقد نبضَ هذا القلب الضَّعيف دائمًا لريميديوس وحدها و لازال ينبضُ لها و أنا أعرفُ أنَّ نهايتي قد حانتْ و لا فرارَ لي من الموتِ . و إذا كنتُ أنا أستعرضُ شجاعةً في كلامي أمام محكمتكَ الموقَّرة أيُّها الكاهن الأكبر زوسيما. .فذلك بسببِ حبِّ ‘ ريميديوس ‘ .
ُ يسجدُ أليريانو أمام الكاهنِ الأكبر و يقولُ و الدُّموع تتدفَّقُ من عينيهِ : لي رغبةً أيُّها الكاهن المقدَّس. .فإذا رضيتَ بتنفيذِ رغبتي هذهِ الَّتي أعتبرها صلاتي الآخيرة للآلهة سأموتُ مؤمنًا صادقًا راضيًا بقدري مستسلمًا لعقاب الآلهة الَّذي فُرِضَ عليَّ .
تعلو ملامح وجه الكاهن الأكبر زوسيما الدَّهشة و يبدو أنَّ الطَّريقةَ الَّتي تكلَّمَ بها أليريانو قد أثرت فيهِ تأثيراً ، و يقولُ : قُلْ بسرعةٍ ما هيَّ رغبتكَ الآخيرةِ دون إطالة الكلام. . .!!
أليريانو : أرغبُ أنْ أرى ‘ ريميديوس ‘ للمرَّةِ الآخيرةِ و أنتحبُ على صدرها الحنونُ و أشبعُ كُلَّ رغباتي في البكاءِ و الألمِ . أرغبُ أن أستمتعُ بالألمِ و أحزنُ حزني الآخير على حبيبتي ‘ ريميديوس ‘ و أن يُقْطَعُ رأسي على صدرها .
يُوَجِّهُ الكاهن الأكبر زوسيما الأمرَ إلى الكهنةِ الثَّلاثِ الَّذين يقفون عن يمينهِ لأن يحضروا جثَّةَ ‘ ريميديوس ‘ .
المشهد الثَّامنُ :
ينهضُ الكاهن الأكبر من مكانهِ و يعبرُ الحجرة جيئةً و ذهابًا و هو يطرقُ بعصاه طرقاتٍ خفيفةٍ على الأرض . ثمَّ يقفُ في زاويةٍ من زوايا الحجرة و يفحصُ ميليسا بنظراتهِ الثَّاقبةِ. . .
الكاهن الأكبر زوسيما : كيفَ كانَ اللِّقاء بينكما. . .؟ أريدُ سماعَ القصَّة من بدايتها .
ميليسا : إلتقينا عدَّةَ مرَّات على ضفافِ نهرِ ‘ نيفا ‘ في خلوةِ اللَّيلِ و ظلامهِ ، و كانت لقاءاتنا تمرُّ في صمتٍ . حيثُ نكتفي بتبادلِ النَّظراتِ لساعاتٍ طوالٍ و الرِّياحِ الباردةِ تلسعُ وجوهنا . فمرَّة همسَ في أذني قائلًا مديِّ إليَّ يدكِ. .فمددتُ له يدي و أنا خائفة أرتجفُ ارتجافًا ، فقد كانت أولَّ مرَّة أمدُّ فيها يدي لرجل. .فقبَّلها بحنانٍ بالغٍ و ضغطَ عليها بقوَّةٍ ، ثمَّ سحبني من ذراعي إليهِ و قبَّلني من فمي قبلةٌ خفيفةٌ . و مرَّة توقَّفنا ليلًا على شاطئِ نهرِ ‘ نيافا ‘ العريضِ. .اللَّيلة سجيَّة حارَّة هيَّ ليلةٌ مشرقةٌ من ليالي شهرِ تموزِ ، و من النَّهرِ العريضِ تتصاعدُ أبخرةً تحملُ إلينا طراوة منعشة و تنبجزُ سمكةً إلى سطحِ الماءِ من حينٍ إلى حينٍ. .فتلاطمُ الأمواجَ تلاطمًا خفيفًا . سكتتِ العصافيرِ. .فكأنَّ الطَّبيعةَ صامتةً تصغي إلينا. .في هذهِ الهدأةِ الَّتي تزينُ من حولنا على الأرضِ و السَّماءِ و نحنُ لوحدنا لم ننمْ. .في هذا الصفو التَّام المعذَّب قالَ لي أحبّك و لتشهدُ السَّماء و الأرض و تشهدُ أمواج النَّهر و رياحه ، ثمَّ عادتِ الطُّيور لتغنيّ من جديدٍ و عادتٍ الطَّبيعة إلى صخبها كأنَّها ترقصُ لنا فرحًا .
تقتربُ ميليسا من أليريانو حتَّى تكادُ أن تلتصقُ بهِ و هيَّ تقول و قد اكتسى وجهها بغشاءٍ من حزنٍ و بدا أنَّ الذكرياتِ قد أخذتها إلى مكانٍ بعيدٍ : تذكَّر يا أليريانو. .تذكَّر ذلك المساء البعيد على ضفافِ نهرِ ‘ نيفا ‘. .تذكَّر تلك اللَّحظات من الحبِّ و السموِّ الِّتي عشناها هناك. .لقد كنَّا كلَّينا غريبينِ عن ‘ سانت بطرسبورغ ‘. . .ما الَّذي جمعنا هناك غيرَ الحبّ. . .؟ إنَّني أؤمنُ أنَّ الحبَّ لهُ من العظمةِ ما يمتلكُ الإلهَ. .فهوَ يستطيعُ أن يجمعُ بينَ قلبيْنِ عاشقينِ بحيثُ لا فراقَ بينهما و لا انفكاكَ بغضِّ النَّظرِ عن اللَّونِ و الشَّكل و الدِّين. . .
تستطردُ ميليسا متسائلةً و الدُّموع تتدفَّقُ من عينيها : هل كانَ كُلَّ ذلكَ كذب. . .؟
هل قصائدَ ‘ شكسبير ‘ الَّتي غنيتها لي كانت كذب. . .؟
هل كانت تلك القبلات و العناق و المشاعر الكثيرة أيضا كذب. . .؟
قلْ شيئًا واحدًا يا أليريانو لا تظلُّ صامتًا. .هيا تكلَّم و قلْ أنَّ ذلكَ لم يكن كذب .
يردُّ أليريانو و قد احمرَّ وجهه احمرارًا : كانت نزوة من نزواتِ شبابي عشتها معكِ يا ميليسا. .صحيحُ كانت هناك الكثير من الفتياتِ اللَّواتي تودَّدنَ إليَّ ، لكنني لم أنجذبُ لواحدة منهنَّ غيركِ أنت يا ميليسا ، لربما لسببِ أنَّك لستِ روسية و أنَّ تلكَ الرُّوسيات يتميَّزن بشيءٍ من الغرابةِ لإنَّهنَّ روسيات و نحنُ أجانب ، إنَّني أوافقكِ الرأيِّ. .لقد كانَ وقتًا جميلًا ، و قد استمتعنا نحنُ الإثنينِ و ضحكنا و سهرنا اللَّيالي جالسين على ضفافِ نهرِ ‘ نيفا ‘ أو متجوِّلينَ تحتَ الأشجار العاليَّة الكثيفة في ظلمةِ اللَّيلِ الكاسيةِ تحت ضوء النجوم وسطَ غابة ‘ خاخلا كافا ‘. .كانَ هذا المكان جنَّتنا و كنَّا نذهبُ إليهِ باستمرارٍ ، و لكنني لم أحبّك يا ميليسا. .لم أحبّك قط. .و أنا أعلمُ أنَّكِ أنت أيضًا لم تحبِّيني حينها و لعلَّ الغربة في بلادٍ أوروبيةٍ سمحت لنا بفرصةٍ لنتبادلِ تلك اللَّحظات الحميميَّة الَّتي لم تكنْ حبًّا في الحقيقةِ و إنَّما كانت التصاق بين اثنينِ غريبينِ كانَ بحاجةٍ إلى بعضهما .
ميليسا : نعم كان كذلكَ. .كُلَّ ما قتلهُ هو الصَّواب ، و لكن هذا لا يمنعُ أبدًا أنَّني أحببتكَ فيما بعد حبًّا عظيمًا و تعلَّقلتُ بكَ تعلُّقًا ينكرُ الذَّتِ و يضحِّي بها ، و مرَّتِ الأيَّام ثمَّ الشُّهور و عدتُ لوحدي إلى تلك الأماكن الَّتي تحمل ذكرياتنا معًا و جلستُ وحيدةً تحت الأشجار العاليَّة في لياليٍ مظلمةٍ حالكةٍ باردةٍ. .و بتُّ ليالٍ أدور و أغنِّي في غمرةِ الشوقِ و الحزنِ و نشوةٍ عظيمةٍ تغمرني حدَّ البكَّاء. . .
المشهد التَّاسعُ :
ميليسا تغنِّي :
ضممتهُ إلى صدري ،
دمعتْ عيناهُ و قالَ :
هذا القدر
كُتِب علينا الفراق ،
و ما لنا من طريقٍ آخر. .
اصبر على فراقي ،
فدمُّ العاشق يحبُّ السَّفر. .
تبسَّمتُ لوجعِ الكلامِ ،
و من ثقله قلبي انكسر. .
ما أقسى وداع الحبيب ،
و يا ليتَ لو كانَ يباعُ الصَّبر. .
غابَ الحبيبُ
و تلاشت أحلامي كضوء القمر
في عتمةِ اللَّيلِ ،
فليسَ للشَّوقِ دواء ،
إنَّ فعلَ الشَّوقَ كفعلِ السُّكرِ. .
تداويتُ من شوقهِ بشوقهِ ،
كما يتداوى شاربٌ الخمر بالخمرِ. .
ما نفع قلب لم يحملُ ولفه. . .!
كأنَّهُ ورقة شجر ،
أسقطها الخريف ،
لا حياة فيها و لا أمل. .
تتهالكُ ميليسا على الأرضِ و تنهارُ بالبكاءِ و هيَّ تقولُ : مرَّتِ السنوات و تعاقبتِ الفصول و كنتُ أنت وحدكَ في خيالي. .
دعوتُ الآلهة في غمرةِ الدُّموعِ و الآلامِ أن تعيدكَ لي. .
تألَّمتُ و بكيتُ. .و لكن كنت سعيدةٌ على كُلِّ حالٍ لإنَّكَ في بالي. .
فلا شيءٍ يضاهي وجودكَ بل حتى الآلهة نفسها. .فعندما يأستُ من شوقكَ و حبّكَ و صورتكَ الَّتي لا تفارق خيالي لجأتُ إلى الآلهةِ و دعوتها. .بل و سجدتُ لها و صليتُ. .قلت لها :
يا آلهة يا عظيمة كُلُّ العظمة فيك القدرة على فعلِ المعجزةِ اخرجيه من عقلي و طارديه من خيالي كالشبح ، فأمضي حرَّة كالملكة و أستنشقُ نعيم الحريَّة ، و أعود إلى نهرِ ‘ نيفا ‘ مجرَّدة من كُلِّ ذكرى له. .فأرقصُ و أركض كطفلة لم تحتلم تحت الأشجار العاليَّة في غابةِ ‘ خاخلاكافا ‘ و قطرات الندى الباردة تسقطُ على وجهي فتداعبني و حماس يغمرني أن أركضُ و أركض و أترك قلبي و عقلي و أركض ، لكن الآلهة لم تفعل و وقفت عاجزة و كأنِّها تقول لي :
إنَّ ذكرى معشوقكِ و هيامه و شوقه سوف يطاردونكِ طالما أنت حيَّة .
المشهد العاشرُ :
يأتون الكهنة بجثَّة ‘ ريميديوس ‘ إلى حجرةِ الكاهنِ الأكبرِ راقدة على ثابوتٍ مصنوعٍ من خشبِ الصَّنوبر مغطَّاةٌ بأوراقِ الصَّنوبرِ النَّاعمة مرشوشة عليها لا يظهر إلَّ وجهها الباسم . و يضعون الكهنة الجثَّة على منصَّة أمام تماثيل الآلهة المقدَّسة ، ثم يسجدونَ جميعهم أمامها .
يقفُ أوليريانو يتحلَّقُ إلى جثَّةِ ‘ ريميديوس ‘ كما لو أنَّهُ قد نحتَ من حجرِ و غشاء من دموع يكسو عينيهِ الواسعتينِ و شفتهِ العليا ترتعش و هو يعُضُّ على لسانهِ محاولًا أن ينمعُ نفسه من البكاءِ و العرق يتصبَّبُ من جبينهِ . فإذا هو يتهالكُ على الأرضِ يبكي و ينتحبُ انتحابًا مردِّدًا عبارات الشِّعر الَّتي يعرفها واصفًا ‘ ريميديوس ‘ ، و إذا هو تارةً يقبِّلُ جثَّة ‘ ريميديوس ‘ و يعانقها و يهزُّها إلى صدرهِ و تارةٍ يغنيِّ و هو يختنقُ من الدُّموعِ :
بيني و بينَ عيونَ ريميديوس سيف و حربة ،
و الشَّوق يلاقينا في ليالي القتال. .بينما الحرب تفرِّقنا أميالا طوال .
ما عدتُ أعرف هل أعادي ريميديوس أم أعشقها. . .؟
ما لقلبي طريق غيرَ قلبها ،
و كلَّما سالَ الدَّمُ بيننا زادَ البعد و كثرتِ الظِّلال ،
تداويتُ بشوقِ ريميديوس من جرحها ،
و طيفها يختزلُ بداخلهُ ألف ميل ليعانقني في سهرِ ،
قلبي جنَّة ريميديوس ،
و لغيرِها قبر. .
ما سكن قلبي من النِّساء غير ريميديوس
و ما من إثنينِ سكنا نفس القبر. .
لقد ابتليتُ بريميديوس ،
ابتلاءَ فاقد البصر. .
ما لي غيرَ ريميديوس ،
و ما للعمى ثقة في غيرِ عصاه. .
فعودتي إلى ريميديوس حتميِّة ،
مثلما تعود الميَّاهُ إلى النَّهرِ ،
بعد أن هجرتهُ و جفَّ مجراه. .
و في الآخرِ يستسلمُ أليريانو لحزنهِ و ينهارُ تحت وطأة الدُّموعِ ، و يمدُّ رأسه على صدرِ ريميديوس و كأنَّهُ يقولُ للكاهن الأكبر : هيِّا نفِّذ حكمك و اقطع رأسي. . .
ينهضُ الكاهن الأكبر زوسيما من مكانهِ و يتقدَّمُ خطوتينِ إلى أليريانو رافعًا سيفه إلى السماءِ يكادُ أن يهوي على عنقهِ . تتدخَّلُ ميليسا فتمسكُ السَّيف من قبضتهِ محاولة أن تنزعهُ من يدِ الكاهنِ الأكبرِ . و يتدخَّلوا الكهنة الثَّلاث. .فيمسكونَ ميليسا بقوَّةٍ من ذراعيها و يجعلونها أرضًا . يرفعُ الكاهنَ الأكبر سيفه مرَّة أخرى ، لكنه يعدلُ على قرارهِ و حكمهِ و يرمي السَّيف من يدهِ . غيرَ أنَّ احساسًا عظيمًا ملأ قلبه. .فلقد أدرك مدى الحبَّ العظيم الَّذي يكنُّهُ أليريانو لريميديوس و هذا ما كانَ يشكُّ في صحتهِ .
يصدرُ الكاهن الأكبر أمرهُ لأليريانو بأن ينهضُ و يرجعُ إلى صوابهِ. .فلم يفعلُ و كرَّرَ الأمر مرَّة أخرى و لم يفعل .
يقتربُ الكاهن بطرس من أليريانو. .فيهزُّهُ هزًّا و يصرخَ في أدنهِ لم يجب . غيرَ أنَّ أليريانو كانَ قد مات .
و يظلُّ الكاهن يعبرُ حجرته جيئةً و ذهابًا و هوَّ يغنِّي :
ضممتهُ إلى صدري ،
دمعتْ عيناهُ و قالَ :
هذا القدر
كُتِب علينا الفراق ،
و ما لنا من طريقٍ آخر. .
اصبر على فراقي ،
فدمُّ العاشق يحبُّ السَّفر. .
تبسَّمتُ لوجعِ الكلامِ ،
و من ثقله قلبي انكسر. .
ما أقسى وداع الحبيب ،
و يا ليتَ لو كانَ يباعُ الصَّبر. .
غابَ الحبيبُ
و تلاشت أحلامي كضوء القمر
في عتمةِ اللَّيلِ ،
فليسَ للشَّوقِ دواء ،
إنَّ فعلَ الشَّوقَ كفعلِ السُّكرِ. .
تداويتُ من شوقهِ بشوقهِ ،
كما يتداوى شاربٌ الخمر بالخمرِ. .
ما نفع قلب لم يحملُ ولفه. . .!
كأنَّهُ ورقة شجر ،
أسقطها الخريف ،
لا حياة فيها و لا أمل. .