المغربية المستقلة : وسام يلديز سويدر
وسام العاشق ل ‘انغمار بيرغمان ‘ المخرج الأكثر جرأة :

غسَق ليلُ الفنّ ، بما كان من خمود نجمه الأكثر سطوعاً ؛ إنغمار بيرغمان . إنه المخرج السويديّ ، المبدع في مجاليْ السينما والمسرح ، ومن جعل حياته رهينة لهما ؛ حدّ أنه قال مرة مازحاً : ” المسرح بمثابة الزوجة والسينما عشيقة ! ” . وإذا كان المسرح ـ ولا نعني هنا النصّ ـ من الصعب أن تلقى أعماله المنجزة رواجاً خارج لغتها ؛ فالفيلم ، على العكس من ذلك تماماً . إننا على بيّنة من حقيقة ، أنّ أشهر كتاب المسرح العالميين ، المعاصرين للقرن الفائت ، كان سويدياً ؛ وهوَ اوغست ستريندبيرغ . بيدَ أنّ السينما ، العريقة فعلاً في تلك البلاد ، ستنتظر إسمَ إنغمار بيرغمان ، لتتواشج به ، أبداً ، وخاصة على مستوى معمورتنا . ولكنّ إعتراف السويد بمبدعها هذا ، قد جاء متأخراً . فضلاً عن كونه ـ الإعتراف ـ ما فتيء مظللاً بالريبة والشك فيما يتعلق بالتأثير البالغ الأهمية لبيرغمان على الفنّ السابع ، عالمياً . على أنّ هذا حديثٌ آخر . إنّ ما يهمنا هنا ، هوَ محاولة تتبع تجربة هذا الفنان العظيم وما فيها من مواضيع مجددة ، على مستوى الأسلوب والمضمون سواءً بسواء ، وعلى الأقل من خلال أحد أهمّ أعماله ؛ ” الختم السابع ” . هذا الفيلم ، المنتج عام 1957 ، حقق لمخرجه شهرة فورية ، خارج بلاده ، تجلى بنيله تقديراً رفيعاً من النقاد وصانعي السينما . وعلى رأيي البسيط ، فربما أنّ تحفة السينما هذه ، شكلت ليسَ فاتحة مسيرة الإبداع لبيرغمان فقط ، بل وخاصة ً نقطة تحوله إلى المواضيع الكونية ، الشاملة ـ كمسائل الشك والإيمان ومعنى الحياة والموت ؛ وهيَ المواضيع ، التي شغلت من جايله أو جاء بعده من مبدعي الصورة والكلمة ، مثل فلليني وبازوليني وكامو وايكيلوف ومحفوظ .. وغيرهم .
حينما تبادرت له فكرة فيلم ” الختم السابع ” ، كان بيرغمان على أبواب العقد الرابع من عمره ؛ رجلاً مفعماً بالحيوية والثقة بقدراته وطاقاته الإبداعية : هوَ من سبق له إجتياس خشبة المسرح إخراجاً وتأليفاً ، ومن أثبت حضوره الجماهيريّ حدّ أن تسند له وظيفة إدارية ، سامقة ـ كمدير لمسرح مدينة ” هلسينبورغ ” ، وكان بعدُ في منتصف العشرينات من العمر . شغفه بالخشبة ، الغامر ، ظل مكنوناً في أعماقه ، وإنعكس لاحقا بهذه الدرجة وتلك على أعماله السينمائية . الدور الأول ، الذي تعيّن على مبدعنا التضلع به ، كان أثناء طفولته ؛ التي ما كانت سعيدة بحسب سيرته الشخصية . فكما كان حال زميله ، المعلم الفريد هيتشكوك ووالده الشرطيّ القاسي ـ كذلك الأمر معه ، حينما تعيّن عليه صبياً التحايل على وطأة أبٍ متزمّت وحاد الطبع ؛ وبكلمة اخرى ، قسّ بروتستانتيّ ! هذا الأب ، كان من بيئة متوسطة الحال حينما تعرّف بالأم ، التي إنحدرت من طبقة أرقى وكانت حينئذٍ قد أنهت للتو دراسة التمريض . يجدر القول ، بأنّ صفة ” الممرضة ” قد أضحى لها بريق خاص ، شاعريّ ، مع حلول الحرب العظمى ؛ وبالرغم من أنّ السويد بقيت بمنأى عنها . حينما ولد للعائلة في 14 تموز 1918 ، صبيّها الثاني ـ الذي دعيَ ” إنغمار ” ـ كانت وقتذاك مستقرة في مدينة ” اوبسالا ” . إنها إحدى العواصم القديمة لبلاد الفايكنغ ، والتي إجتلبت لها جامعتها ومكتبتها وكاتدرائيتها ، صيتاً عالمياً في الزمن الحديث . هنا في مسقط رأسه ، درس إنغمار علومه الأولى ، قبل أن ينتقل مع الأسرة إلى ستوكهولم ، ليواصل من ثم فيها دراسته العليا في المسرح . كان ا|لأب قد إنتقل للعاصمة ، مع تعيينه راعي أبرشية ” اليانورا ” ، في المنطقة الارستقراطية ” اوسترمالم ” ، ومن ثمّ ترقيه فيما بعد إلى خدمة القصر الملكيّ . لا ريب أن جوّ القسوة والتزمت ، المستهج بطفولة مبدعنا ، قد وجّها روحه الشفيفة ، المرهفة ، ناحية الفن والأدب ، كيما تجدَ متنفساً طبيعياً لمكنوناتها . وسنعاين كيف وجدَ هذا الجوّ الدينيّ ، البروتستانتيّ ، ترجيعاً له في أعمال مخرج المستقبل ، العبقريّ ؛ كما في مثال الفيلم الذي نحن بصدد دراسته .
بما أننا عقدنا مماثلة بين بيرغمان وهيتشكوك ، لناحية تشابه البيئة العائلية ، فلنقل أنّ كلاهما إشترك كذلك في إبداع النصوص الخاصة بأفلامه ، علاوة على الفترة المطولة اللازمة لتحضيرها ، إلى تقشف الميزانية الخاصة بها . إلا أنّ بيرغمان إختلف مع سلفه ذاك في نواح كثيرة ؛ ما كان أقلها طبيعته الرقيقة ، السلسة ، فيما يتعلق بطريقة التعامل مع طاقم العمل . هذا الطاقم ، شاءَ مخرجنا التواصل معه لعقود من الزمن ، كما لو أنه أسرة حقيقية وهو والدها وراعيها . إذ المعروف الآن ، أنّ ممثلين سويديين ، معينين ـ كماكس فون سيدو وغونار بيورنستراند وبيبي اندرسون ونيلس بوبه ـ دأبوا على لعب الأدوار الرئيسة في أفلام بيرغمان ، فضلاً عن النرويجية ليف اولمان ؛ التي تناهت علاقته بها ، الحميمة ، في منتصف السبعينات إلى العيش معاً تحت سقف واحد . هذه الأخيرة ، ما كان مخرجنا قد تعرف بعد بها ، أثناء تحضيره لفيلم ” الختم السابع ” ؛ المبتدع من لدنه قصة ً وسيناريو وحوار . إسم فيلمه هذا ، كما أفترضُ ، مستلّ من البوق السابع لـ ” سفر الرؤيا ” ، الإنجيلي : ” إختمْ على ما تكلمتَ بالرعود السبعة ولا تكتبه ، خذه وكله ” . وعندي ، أنّ المشهد المتمثل بلقاء الفارس ” انطونيوس ” ( النجم العظيم ماكس فون سيدو ) مع الفتاة المتهمة بالسحر ، ربما ليجسّد بشكل حرفيّ هذه الآية . إذ يطلب الفارس منها عدم مواصلة الكلام ، ومواجهة الموت كقدر محتوم ، فيما هوَ يناولها نبتة سامة لتساعدها على الخلاص من عذاب المحرقة . يبدو أنّ فارسنا كان محتفظاً بالسم لنفسه ، كما نقرأه من محاورته مع الرجل الموصوف بـ ” الموت ” . يقيناً إنّ هذا المشهد ، إضافة لعنوان الفيلم ودلالاته اللاهوتية والفلسفية ، قد وجدَ له صدىً في رواية امبرتو ايكو ، الكبرى ، ” إسم الوردة ” : فهنا في ” الختم السابع ” ، نعايش أجواءً شبيهة بما يعقب نذير القيامة وقدوم المسيح الدجّال ، المتحكم بعقلية القرون الوسطى ، الأوربية ؛ مجاعات ، أوبئة ، تزمت ديني ، إنشقاقات مذهبية وهرطقات .. الخ . ففي عام 1351 ، يؤوب بطل الفيلم ، الفارس أنطونيوس ، إلى بلاده من فلسطين ـ ” الأرض المقدسة ” ـ حيث كان مشتركاً في حملة صليبية . صدمه هنا للوهلة الأولى ، مشاهد الرعب المكتنفة البشر والمتمثلة بفرارهم بأرواحهم أمام زحف الوباء ( لنتذكر أيضاً هذه الثيمة ودلالتها في ” الطاعون ” لكامو ، و ” الحرافيش ” لمحفوظ ) . ها هيَ مفارقة ، يقدمها الفيلم للمُشاهد : أنّ البطل الفارس ، الذي نجا من غمار الحرب الطاحنة ، سيعود إلى موطنه مع رفيقه ” حامل الأسلحة ” ( النجم غونار بيورنستراند ) ، ليواجها مصيرهما بالمرض القاتل . اللقطة المستهل بها الحدث ، كانت ذات مغزى لناحية الأجواء الملحمية والفنتاسية للحكاية ككل . فنحن سنتابع مواجهة في لعبة الشطرنج ، بين ما يمكن وسمه بـ ” الموت ” وبين الفارس ذاك . هذه اللقطة ، بحسب مؤرخي فن السينما السويدية ، كانت على خلفية تأثر المخرج بأجواء بيئته الدينية : إنها صورة عن لوحة للرسام القروسطي ، البيرتوس بيكتور ، مثبتة في كنيسة ” تيبي ” بالسويد . المشهد التالي للفيلم ، كان على موعد مع مفارقة اخرى ؛ حينما نجد الناس يسلون الخطر الداهم ويتحدون الموت المتربّص بهم ، عن طريق اللهو والعبث وممارسة الحبّ المحرّم . ها هنا ، إذاً ، سيكون على رجال الدين التحرك ، همُ القائمون على كبح الخطيئة وتذكير الناس بلحظة الحشر ، القريبة . إنّ عائلة مكوّنة من زوج ممثل ، أشبه بالمهرج ، يدعى ” يوف ” ( نيلس بوبه ) وزوجته الوفية ” ميا ” ( بيبي اندرسون ) وطفلهما ، كانت في طريق الفرار من الوباء ، حينما تلتقي بشخوص الحكاية الآخرين ـ الأشبه بالفنتاسيين ؛ وهم قسّ وصائغ وزوجه وعشيقها وفتاة متهمة بالسحر، علاوة على الفارس و حامل أسلحته . إنهم سبعة شخوص إذاً ، مما يحيلنا إلى عنوان الفيلم بالدرجة الاولى . المشهد الأخير من الفيلم ، سيجسّد رمز الإحالة تلك ؛ بما كان من عرضه لحضور المسيح ، المنبثق نوره في حلكة المشهد وغموضه ، ومن ثمّ متابعتنا لأولئك السبعة ـ إثر موتهم ، على الأرجح ـ وهم على هيئة أشباح ، منطلسة الملامح ، ممسك الواحد منهم بيد الآخر ويبدو في حالة من التدافع والهرج ، وكأنما يفرّ من مصير ما ، محتوم : هيَ ذي إحدى مفارقات الحكاية ، ما دام الأموات بدورهم على موعد مع مسائل الوجود ، الملغزة ، التي سبق أن واجهوها في حياتهم وعانوا من وطأتها. من ناحية اخرى ، يبدو تأثر إنغمار بيرغمان بالمسرح ، لناحية شخصية الممثل ( المذكرة بمهرج ” الملك لير ” لشكسبير ) ، إلى مشاهد الحوار ، المطوّلة ؛ وخصوصاً حينما نعلم أن مدة عرض الفيلم كانت أقل من مائة دقيقة . كما في مشهد الموكب الكنسي ، الذي ولجت خلله شخصية القس / الأب ، المسكونة في أعماق المخرج ! في ذلك المشهد ، تُحَث الرعية على نبذ الفسق والفجور ، ما دام الأجل المحتوم بات على مرمى حجر : ” أن يموت الإنسان نظيفاً ، لهو خير له من جهنم ” ، يخاطبهم القس . ثيمة ” التطهير ” ، الدينية ، ملحوظة هنا . وفي مشهد تال ، سيكون على إحدى الفتيات أن تتطهر من لوثة السحر والإتصال بالشيطان عن طريق إحراقها حيّة . لكأنما مخرجنا ، يقدم ترميزاً للنازية ومحرقتها ضد اليهود ، التي ما كان قد مضى عليها دزينة من السنوات وقت تصوير الفيلم . المحرقة نفسها ، المهللة لها آنذاك أسرة بيرغمان بالذات ـ كما الكثير من السويديين ـ والتي عاد هوَ في أحد أفلامه الأخيرة ، ” بيضة الثعبان ” ( 1976 ) ، لإدانة التواطؤ والصمت العام حيالها .