دوستويفسكي باب نحو العبور إلى الأدب الروسي… أعظم من فهم سيكولوجية للإنسان

المغربية المستقلة : متابعة منصف الإدريسي الخمليشي

مقال : بقلم وسام يلدز سويدر

دوستويفسكي باب نحو العبور إلى الأدب الروسي… أعظم من فهم سيكولوجية للإنسان

أوّل مرة تعرفت إلى الأديب الرائع فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي (1821 – 1881) – كنت لما أزل يافعا – من خلال رائعته الخالدة “الجريمة والعقاب”، وأذكر كم تصببت عرقاً من خوف وتوجس، حين صور ما يعتمل في نفس المجرم وهو يقدم على جريمته ومشاعره وردود أفعاله، وأظن أن كثيرين أيضا زادت ضربات قلوبهم، هذا التصوير الدقيق لا يقدر عليه إلا من خبر الحياة وأوغل بعيدا في فهم النفس البشرية بعمق، وقد جسد فيها هذا الكاتب الكبير قضية الخير والشر التي ترتبط بالجريمة. كاتب يستحق الخلود لا يمكن فهم أدب دوستويفسكي إلا من خلال مسيرة حياته الصعبة والمعقدة، مع الفقر والمرض والمعاناة الجسدية والنفسية، حتى أن كل أنواع العذابات التي أصابته في مختلف مراحل حياته لم تكن اعتباطية أو بالصدفة، إنما شرحها دوماً على أنها الطريق الذي يؤدي الى فهم أسباب الوجود الإنساني الذي أصبح هاجساً في حياته وملازماً لأدبه، وبدأت تتضح مفاهيم كثيرة أمامه مع صدور روايته: “الأخوة كراماوزف” التي توقف عندها طويلاً المحلل النفسي النمساوي سيغموند فرويد، فرأى أنها رواية أساسية في فهم النفس البشرية، وقال في دوستويفسكي أنه “كاتب يستحق الخلود”، واعتبر هذه الرواية أهم عمل أدبي يمكن أن يجسّد نظريته في “قتل الأب” بالمعنى المجازي، في تربية الطفل ثم مرحلة الشباب. وليس فرويد وحده من توقف طويلاً أمام إبداع دوستويفسكي بل ان عددا كبيرا من معاصريه ومن جاء بعده، خصوصاً هؤلاء الذين انتموا الى الواقعية النقدية التي ازدهرت في الرواية بشكل خاص منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث صوّروا عذابات الإنسان وصراعاته النفسية الداخلية، وكان دوستويفسكي من أعظم من فهم البنية السيكولوجية للإنسان وتكشفت له خبايا النفس البشرية في كل تمزقاتها وضياعها في خضم البحث عن معنى الوجود الإنساني. شهرة سريعة دوستويفسكي كان الولد الثاني لعائلة فقيرة، والده كان جراحاً يعمل في مستشفى مريانسكي الخاصة بالفقراء في أحد أحياء موسكو الأكثر فقراً، والمعروفة بإيوائها لفئة المعوزين والمشردين، فكانت المنطقة تضمّ أيضاً مقبرة للمجرمين ومستشفى للمجانين وداراً للأيتام. وقد بدا أثر هذه المنطقة جلياً على العائلة بأكملها، بدءاً بالوالد الذي تقاعد من عمله وصار مدمناً على الكحول وعنيفاً وسريع الانفعال مع أولاده، وبالتالي فيودور الصغير تأثر أشد التأثير بكل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها الفقراء من حوله، كذلك المرضى في المستشفى حيث كان يعمل والده. من تلك البقعة البائسة من روسيا تلمّس دوستويفسكي أولى إشارات الألم على الأرض، ومن شخصية والده استقى بطله فيودور كرامازوف الوالد المستبد الذي هو محور روايته “الأخوة كرامازوف”. بعد موت والدته في العام 1837، تمّ إرساله مع شقيقه للدراسة في أكاديمية الهندسة الحربية في سانت بطرسبروغ حيث تخصص في الرياضيات ثم تحول الى الأدب، فراح يترجم من الأدب العالمي وينشر في إحدى المجلات الى أن كتب يوماً، وبوحي من حياته اليومية كتاب “الفقراء”، وما أن نشرها في مجلة “المعاصرة” حتى حملت له الشهرة سريعاً، لكن ما كتبه بعدها لم يكن له الحظ بأن يتواصل بها مع قرائه، وسرعان ما تمّ القبض عليه وهو في الثامنة والعشرين من عمره لانتمائه الى “جماعة دائرة بتراشفسكي” التي كانت تدعو الى التحرر الفكري والثورة، زمن حكم القيصر نيكولاس الأول، وجاء الحكم بالإعدام في حقه مع باقي أعضاء الجماعة. وهنا مرّ دوستويفسكي بأصعب تجارب حياته، حيث وقف متجمداً لساعات في صقيع ثلج الباحة المخصصة للإعدام بانتظار التنفيذ، لكن فجأة وصل العفو ليشمله في اللحظة الأخيرة، فكان أن حُكم عليه بالنفي الى سيبيريا مع الأشغال الشاقة، فأمضى أربعة أعوام في سجن “كاتورغا” في مقاطعة أومسك في سيبيريا. المرض والسجن وثمة مرحلة مهمة في حياة دوستويفسكي، اختبر قسوتها الى جانب معاناته وآلامه الجسدية بسبب إصابته منذ سن التاسعة بداء الصرع. كان هذا المرض ينتابه بقوة ويستمر لفترة ساعات، ثم بدأ يتفاقم فيستمر ليومين، وفي سنوات حياته الأخيرة كان يبقى نحو ستة أيام أسير غرفته بسبب المرض. هذان العاملان: المرض والسجن، ولّدا لدى دوستويفسكي ساحة المعركة التي بنى عليها مملكته السفلية، مملكته المصنوعة من آلام وقذارة ووجوه شريرة وأفعال منبوذة. وإذا كان تولستوي معاصره قد توصل في أدبه الى نتيجة إيجابية اتخذت أسلحتها وقوتها من بساطة العيش والحياة القروية الزاهدة والمتقشفة، فإن دوستويفسكي كتب بمرارة عن عالم سفليّ مغتصب بأفعال الشر وقد أفضى الى نتائج سلبية. وفي بحثه عن حقيقة الوجود الإنساني، لم يسلم دوستويفسكي من كل أنواع ضربات القدر. وإذا كان تولستوي كان يقود قراءه الى فلسفة مسالمة عبر طرقات آمنة في حياته الزاهدة واختباراته، فإن دوستويفسكي وصل الى قعر البؤس والعذاب الى جانب شخصياته التي جعلها دوماً معذبة على صورته. من منفاه في سيبيريا، كتب فيودور الشاب الى أخيه وكان قد نسي أنه القاص والروائي الذي كانت قد فُتحت له نافذة على الشهرة ذات يوم، وما تركه في رسالته المذكورة الى جانب رسائل أخرى صار محور الباحثين والنقّاد الذين استقوا بذور واقعيته النقدية المتفجرة من كلماته تلك: “… يا أخي، هي ثكنات عسكرية كان يجب أن تقفل من سنوات، وها هم يحشروننا داخلها في الصيف، أجواء لا تُطاق، وفي الشتاء برد لا يُحتمل، كل الأرضيات متعفّنة ونتنة والقذارة على الأرض يصل ارتفاعها الى بضعة سنتيمترات ومن السهل أن ننزلق عليها ونقع، كنّا هناك محزومين مثل سمك السردين في برميل ولم يكن المكان يكفي لتستدير، ومن المغرب الى فترة العشاء، كان من المستحيل أن لا نتصرف كالخنازير، ومن حولنا البراغيث والقمل والخنافس السوداء”. الإلحاد والإيمان كل الظروف الصعبة في حياة دوستويفسكي الفتى المريض ومن ثم الشاب السجين، وصولاً الى عودته من المنفى الى سانت بطرسبرغ منسياً فانغمس في المقامرة وتراكمت عليه الديون، كل هذا جعله يعيش صراعات هائلة انبثق منها الإبداع في الكتابة. وما بين الانغماس في العالم السفلي والتوصل الى الإفلات منه، تأرجح الكاتب ما بين الإلحاد والإيمان، وكتب من وحي ذلك روايات أحدثت ثورة في الفن الروائي حيث أعطى لأبطال رواياته الحرية في اختيار مصائرهم غير أنه كان يضعها دائماً في موقع الوسط ما بين الخير والشر والإيمان والإلحاد والترفع والسقوط، وهذا الإبداع الأدبي تمثل في عشرات الكتب له: “الجريمة والعقاب”، “الإنسان الصرصار”، “المقامر”، “الأبله”، “الفقراء”، “مذلّون مُهانون”، “التمساح”، “الزوج الأبدي”، “الشياطين”، “المراهق”، “قصة أليمة”، “ذكريات شتاء عن مشاعر صيف”، “زوجة آخر ورجل تحت السرير”، وغيرها من الروايات والقصص القصيرة، أما قمة عطاءات دوستويفسكي فكانت في “الأخوة كرامازوف” التي كانت الأخيرة له وفارق الحياة بعد الانتهاء منها بقليل. وما زالت تأثيرات مؤلفاته فاعلة حتى اليوم ويخلص بعض النقاد والباحثين الى عزل مؤلفات معينة لدوستويفسكي ودرسها وتشريحها ليعثروا دائماً على جديد، حتى ان البعض توصلوا الى اعتباره صاحب رؤية هائلة تجلت في مقدرته على استشراف ما ستؤول اليه بلاده بعد قرن وأكثر، وفي كل هذا محاولات لمقاربة عبقرية دوستويفسكي، غير ان المهمة صعبة والدرب مسيجة والخروج عنها الى متاهات تقود في زواريب عالمه الروائي امر شائك، وحيث ان الكاتب كان ينتقل من سجن الى آخر، وهي حالة تفترض عزلته وتواريه وراء الألم والحزن والشر، كان هو على عكس ذلك، يفتح ابواب الحرية، ويشرعها امام ابطاله ابناء الحياة، فيمشون معه وأحياناً يحلقون، يخطئون او يزهدون، وكلهم في درب واحدة: أطفال وشيوخ، رجال ونساء، مجرمون ومحاربون ومفكرون ومتسولون ومشردون ومعذبون ومبدعون، وهو حاضر ليدرس ويصور خبايا النفس البشرية، مدركاً كل التفاصيل والفروقات بين الشخصيات الانسانية وواضعاً كل لغز عبقريته في ظل سجونه الكثيرة: سجن الفقر واليتم في طفولته وشبابه وسجن الألم في الجسد المريض وسجن المنفى في غربته عن وطنه.

Loading...