المغربية المستقلة : متابعة منصف الإدريسي الخمليشي
قصة قصيرة بقلم : إسراء جعطيط
زنزانة بام

كانت في غيبوبة ، لم تستفق منها إلا الحين
تنظر’ بام ‘ حولها رائية نفسها ضمن زنزانة صغيرة ، قد استعمر الصدأ بابها الحديدي المغلق ، و اتسخت أرضيتها بالعفن ، و جدرانها القاتمة الميتة ، تبث الرعب والخوف في نفس من يبصرها …
لم يكن على جسد ‘ بام ‘ الا قطعة قماش صغيرة تغطيها ، مع برد يتسلل الى داخل الزنزانة ، مهددا الفتاة الصغيرة ، حيث تنتصب باحثة عن مصدره ، فتجد نافذة صغيرة صالحة للنظر منها ، على ماهو موجود في الخارج … تتقدم نحوها ، لكي تجد ورقة صغيرة مكتوبا عليها :
” ابحثي عن الحقيقة … فاذا وجدتيها انطقي بها ، سوف تفتح الزنزانة لوحدها وتصيرين حرة …”
… تستغرب الفتاة ‘ بام ‘ من هذه الورقة الصغيرة ، متسائلة : ” أي حقيقة أنطق بها يا ترى … ؟ ”
… لقد كانت الزنزانة مظلمة ، ولا نور فيها ، الا شيء من اشعة في وسطها ، مر من خلال تقاطيع النافذة الصغيرة … و كان في زوايا الزنزانة ثلاثة كتب مبعثرة بغير ترتيب :
الكتاب الأول كان أخضر اللون ، وهو يتحدث عن الروح الإنسانية المجردة
الكتاب الثاني كان رمادي اللون، يتحدث عن المادة الميتة
الكتاب الثالث كان متلونا بين الأحمر و الأخضر و البني ، يتحدث عن جسد الانسان وروحه
( لقد كانت هناك أكوان متعددة ، وفي كل كون معين ، كانت توجد ‘ بام ‘ خاصة بذلك الكون في نفس الزنزانة بنفس الاحوال … )
‘ بام ‘ في الكون الأول :
بعد أن قرأت الفتاة الصغيرة تلك العبارة على الورقة ، شرعت في تشكيل جمل كثيرة ومتنوعة ، عسى الزنزانة تفتح من اجلها … كانت ‘ بام ‘ تلوح بعبارت مثل : ” أنا موجودة …” ، ” افتحي ايتها الزنزانة …” ، ” بحق السماء اسالك ان تفتحي … ” …تمضي المسكينة هكذا ولم تحرك ساكنا من مكانها تتلو العبارات تلو العبارات … من غير جدوى تجديها على مر وكر السنين ، فكانت بين عبارة ترميها وبين أمل في أن يجدها أحد في زنزانتها المعزولة و القاتمة … إلا انه كان الامل في المستحيل ان يتحقق ، حتى ماتت على تلك الحال …
لقد كانت ‘ بام’ الكون الاول ، نموذج للانسان الذي لم يعرف ذاته ، و لم يعرف محيطه ، فماتت وهي حية في الزنزانة ، وماتت وهي ميتة في الزنزانة …
‘بام ‘ في الكون الثاني :
ابتدأت فتاة الكون الثاني باطلاق العبارات على الزنزانة عساها تفتح بضربة حظ أو صدفة عجيبة … لكن ذلك لم يفلح ، حيث يئست المسكينة ، فبدأت تدور في الزنزانة ، مفتشة في ذلك الظلام المهيمن ، عن شيء يؤنس وحشتها ، ويزيل غمها … تصطدم رجلها بالكتاب الاول ، كتاب ‘ الروح الانسانية المجردة ‘
غافلة عن بقية الكتابين الباقيين ، فتقوم بحمله متجهة نحو بقعة النور الضئيلة ، القادمة من النافذة الضيقة و تبدأ في دراسته مباشرة … حيث دامت رحلتها معه وقتا واسعا ، ولما كانت ‘ بام ‘ صافية العقل ، وخالية الفكر … راحت تقتنع تماما بالاراء الساكنة في تلك الصفحات القديمة ، الرثة …
تستخلص عصارة ذلك الكتاب ، مقتنعة به تماما … حيث بدأت ترى نفسها ملاكا يستطيع العبور وراء زنزانتها من غير أن تخرج جثتها … ترى نفسها روحا بجناحين ، من غير قيود محسوسة تسيطر على وجدانها … وجدان كان يبلغ بدره حينما يسقط الليل ستاره ، فتتمتع ‘ بام ‘ الروحية برؤية النجوم و الاقمار المضيئة و النيرة … لكنها في الحقيقة ، امتازت بروحنة فقيرة و ضحلة … روحنة في صلبها ومبادئها أتت فقط من زنزانة قاتمة … ولو كانت في وسط اجمل لامتازت بروح اجمل …
هكذا عاشت ‘ بام ‘ … توقفت ما إن اصطدمت بكتابها الاول … ووافقت عليه وجعلته لها مقدسا …استمرت على حالها هذا الى ان ماتت غير واجدة العزاء الذي يشفي … ماتت من غير ان تفتح الزنزانة …لكنها عاشت شيئا ليس كبيرا كفاية ، لكنه غير كافي …
لقد كانت ‘ بام ‘ الكون الثاني ، نموذج الانسان الذي بدأ بدراسة محيطه ،لكنه توقف مع اول اصطدامة تحمل بداية المعرفة ، التي جعلها بمثابة كل المعرفة … الامر الذي جعل حياتها تضيع و الزنزانة لم تفتح
‘بام ‘ في الكون الثالث :
كانت فتاة الكون الثالث مثل الأولتين ، شرعت في تنويع العبارات لعل الزنزانة تفتح ، وبعد أمد ليس بيسير توقفت يائسة … بدأت دموع الفتاة تنهار وتتساءل :
” كيف وصلت إلى هذه الزنزانة ؟ ” ، ” كيف سأعيش في هذه الزنزانة ؟ ” … والسؤال الاخير :
” كيف ساخرج من الزنزانة ؟ ” . . . . هذه كانت اسئلة ‘ بام ‘ الصغيرة الذكية ، و في سبيل البحث عن الاجوبة ، قررت التفتيش في ظلام الزنزانة ، علها تهتدي سبيلا ، و في خضام بحثها العشوائي ، تلتقي يدها بالكتاب الثاني ، كتاب ‘ المادة الميتة ‘ …حيث اعتبرته كنزا مدفونا ، ساقها اليه الحظ الاعمى ، و التفتيش المظلم ليس الا … و رغم أنها فكرت للحظة : ” قد توجد كتب اخرى يجب ان ابحث عنها ، ربما تكون مفتاح الاجابة عن حقيقة الورقة ” ، لكن جعلت ذلك مستحيلا في ذهنها ، معبرة : ” كيف لزنزانة مظلمة فارغة و باردة ان تحوي غير هذا الكتاب الرث و الهش … مستحيل ،ومستحيل … ”
هكذا اعتقدت الفتاة المسكينة ، وانكبت تدرس الكتاب بكل تركيز و عمق في الاستقراء … حتى ارتوت من صحائفه حفظا وترديدا ، وسط ظلمة المكان ، المشعرة بالعجز ، و الضعف ، والهوان …
اقتنعت ‘ بام ‘ بأنها لاشيء غير مادة جامدة ميتة ، كأي شيء آخر وسط هذه الزنزانة ، حيث خاطبت نفسها قائلة : ” لا وجود للاسئلة الثلاث التي طرحتها اصلا ، لا وجود الا للظلام ، و عدم وجودي داخل الزنزانة يساوي وجودي نفسه داخلها من غير فرق يذكر … “
و لما اعتبرت نفسها مادة ميتة كالكتاب الرث الذي كانت تدرسه ، راحت تفسر شأن الورقة المكتوب عليها : ” ابحثي عن الحقيقة … فاذا وجدتيها انطقي بها ، سوف تفتح الزنزانة لوحدها وتصيرين حرة …”
حيث آمنت بفكرتها القائلة : ” أن الورقة هذه كانت ضمن كتاب آخر ملتصقة به ، في حين تآاكل الكتاب في هذه الزنزانة ، ولم يبق منه إلا هذه القصيصة التي لا مغزى منها ، و ما كان من فكرتي الاولى عنها أنها تعكس وجودا خارجيا وضعها ، إنما لسياقها المعطي ذلك الاحساس الكاذب ليس الا .. . ”
نظرت ‘ بام ‘ الى نفسها على أنها جزء من الزنزانة ، و أعدمت تفكيرها الفطري الاول ، الذي يحكي انها كائن ليس في بيئته ، ولا منزله …بل كائن وجوده الحقيقي يبدأ خلف الزنزانة …
… كتاب ‘ المادة الميتة ‘ كان نظرة مشبعة لـــ ‘بام ‘ ، التي ما بارحت الانتهاء منه ، ومن قتل احاسيسها المنادية بترك الزنزانة … فأصبحت شيئا متحدا مع أرض الزنزانة ، وحديدها ، و جدرانها … حيث في الاخير قامت بالانتحار نتيجة فلسفة : أن وجودها مساوي لعدم وجودها …
كانت ‘ بام’ الكون الثالث نموذجا للانسان الذي بدأ في دراسة محيطه البداية الموفقة في طرح الاسئلة لكنه شابه انسان الكون الثاني ، حينما جعل اول شيء اصطدم به هو الحل ، حينما جعل بداية المعرفة هي المعرفة … معرفة في الاخير قامت بقتل روحها ، ثم بقتل جسدها … كانت معرفة ناقصة كنقص معرفة الانسان الروحي … إلا انها ناقصة وقاتلة خلافا للثانية … الامر الذي جعل حياتها تضيع والزنزانة لم تفتح …
‘ بام ‘ في الكون الرابع :
من غير اطلاق عبارة واحدة … جلست الفتاة تفكر فيما حولها ، و تفكر في نفسها بمجرد انتهاء قراءتها للقصيصة التي تامرها بايجاد الحقيقة ، حيث بذلك اعتبرت أن وجودها يجب ان يكون خارج الزنزانة ، وانها غريبة في هذا العالم المظلم ، و جعلت من البديهة أن الورقة الصغيرة الداعية للبحث ، شيء اتى من خارج الزنزانة لا من داخلها . . . هكذا جعلت ‘ بام ‘ مسلمات لنفسها تنطلق منها في بناء الحـــل …
. . .
البديهيات التي وضعتها جعلتها تطرح نفس الاسئلة : ” كيف وصلت إلى الزنزانة ؟ ” …
” كيف ساعيش في الزنزانة ” ، ” كيف ساخرج من الزنزانة ؟ ” . . . لتبتدئ مشوارها في كشف الظلام المهيمن بلمسات يدها ، علها تصيب الهدى بذلك ، و علها تكشف جوابا لما يخالج صدرها الصغير …
بدأت مشوار التلمس وسط الظلام الدامس ، تطلب خيطا من الهدى ، أو شعلة نور تقضي على ظلمتها الموحشة ، ظلمة صدرها ، وظلمة زنزانتها ، هدى ونور ، يزيل قلقها ، و يثلج صدرها
لتتاخم يدها الطرية ، والصغيرة كتابا ، كتاب ‘ جسد الانسان و روحه ‘ ، فأيما سعادة امتلكتها ، و خالطت لحمها ودمها ،شارعة في دراسة الكتاب ، بشغف و إقبال لا يوصفان . . .
تنتهي ‘ بام ‘ من الكتاب ، ممتلئة بنظرة توافقية بين الروحانية ، والاخرى المادية . . .
لقد فهمت أن وجودها يجب ان يكون خارج هذه الزنزانة ، و زادت يقينا أن القصيصة تحمل معنى مجعول من شيء خارج الزنزانة ، شيء تستطيع اللحاق به ، شيء لها القدرة على الالتقاء معه …
جعل هذا الكتاب الملون ، الذي كان عاتم اللون بالنسبة لــ ‘بام ‘ ، يتحدث عن الحقيقتين المكونتين لــ ‘بام’ ، به أدركت انها شيء يشبه الزنزانة هو جسدها ، وشيء فوق كل ذلك ، لا ينتمي لعالم الزنزانة ، هو وعيها . . .
في لحظة ادراكها لذلك . . . توسعت النافذة التي يدخل معها النور . . . وصارت حزمة النور المشع اكبر داخل الزنزانة ، حيث انقشعت الظلمة في مركز الزنزانة كلها ، وصارت واضحة ، الا ان ذلك النور لم يشمل كامل الزنزانة . . . فلم تبصر الفتاة باقي الكتابين المتوافرين . . .
استطاعت الفتاة ان تبصر النجوم في الليل بشكل افضل ، و احسن ، و تمتعت بنسيم هواء انعش لها من نافذتها التي صارت أوسع ، مع نور اكبر . . . نور شكل لها اجمل الالوان المبهجة حين التقائه مع قطرات الماء التي كانت في مركز الزنزانة … الذي جعل ‘ بام ‘ تشعر بسعادة كبيرة ، وتتعبد في محراب تلك الالوان ، مستمتعة ببهاء النجوم والاقمار ، لكنها رضيت بذلك الحد ، وبه كانت قانعة قناعة شبه كافية …
اعتبرت ذلك نصيبها . . . وأنها وقفت على السر . . . سر الورقة و كاتبها الذي ظنت أنه اراد لها ما ظفرت به فقط ، من غير زيادة ، وجعلت ما حدث لها ، جوابا للسؤال الثاني . . .
اما باقي السؤالين ، قالت لنفسها : ” انهما غير مهمين ، ما دمت املك هذا النعيم الذي حصلت عليه . . “
الا انها لم تعلم ، امكانية توسيع ذلك النور ، و تكثير ذلك النعيم ، فقد فهمت الروح و المادة ، لكنه الفهم القاصر و غير الكاف لتهديم النافذة باكملها ، حتى يعم النور ساحة الزنزانة بكليتها . . .
هكذا عاشت ‘ بام ‘ الكون الرابع حياتها ، ضمن تلك الزنزانة ، تلعب مع الانوار ، وتتسامر مع الليل ، حالمة بنجومه ، عاشقة في اقماره . . . سعيدة بروحها التي ايقنت وجودها ، راضية بجسدها المبصرة لوجدانه ، وتفاصيل كيانه . . .
كانت ‘ بام ‘ الكون الرابع نموذجا للانسان الذي ظفر شطرا كبيرا من فهم ذاته ، وفهم محيطه ، فعاش حياة سعيدة ، عاش فصل الربيع الذي يشتهيه ، منذ راح مصارعا الظلام ، له مقاتلا . . .
استطاعت ‘ بام ‘ الكون الرابع ان تجيب على السؤال الثاني ، وان تنال بالمعرفة الزائدة التي حازتها خلافا لفتاتي الكونين السابقين . . . معرفة زائدة ، جلبت لها حــلا مرضيا ، مكنها من ايجاد سعادة …السعادة التي صاحبتها حتى النهاية …و مع كل ذلك الانتصار الا ان الزنزانة لم تفتح . . . بقيت موصدة . . .
‘ بام ‘ الكون الخامس :
انتهت فتاة الكون الخامس من قراءة القصيصة ، مطلقة أبصارها تحوم في ظلام الزنزانة ، متسائلة :
” يا ترى ، ماذا يحمل هذا الظلام ؟ ، أي خبايا تكمن في زواياه ؟ ، أي اسرار مدفونة في ثنااياه ؟ “
لقد فهمت كفتاة الكون الرابع انها تحس بالعمق ، احساس : انها لا تنتمي لعالم الزنزانة
احساس : ان صاحب القصيصة الموضوعة ، وجود ثان يشابهها في نوع مشابهة ، التي بها استطاعت الادراك لمغزاه ومراده ، في ان تبحث لكي تخرج من هذا المكان ، عائدة لعالمها الاصلي الذي جاءت منه
هي نفس الاسئلة المطروحة ، تكررها فتاة الكون الخامس بإلحاح ، طالبة الجواب . . .
محدثة نفسها : ” يبدو أن المفتاح لهذه الزنزانة . . . أنا بالذات وما حولي ، لا غير ذلك ، فكلها اشياء مسدودة ، تغلق نفسها دوني ، لا أنا على علم بها في خاطري ، و شعوري اصلا . . . “
تهوي الفتاة تتلمس ، بيديها ورجليها، ارضية الزنزانة ، حاملة بين ضلوعها ، شعور التيه والضياع ..
لا مؤنس لها ، الا نجمة تسطع عبر النافذة الضيقة ، و لا مدفئ لبردتها ، الا قطعة قماش تستر بها جسمانها ، تريد ان تبكي ، كونها لم تختر وجودها في هذا المكان ، لكنها تتحامل على نفسها بأمل العثور على ، طريق الهدى ، و سبيل النجاة . . .
تدغدغ يدها المزينة بخاتمها الفضي ، صفحات كتاب ‘ جسد الانسان وروحه ‘، بذلك يستنير وجهها ، ويتهلل بابتسامة الامان . . . تحمله في عجل الى وسط الزنزانة على نور النافذة الضيقة . . .
سارعة في التهام صحائفه الرثة البالية ، منقبة عن مرساة النجاة ، ساعية في نزع اللثام عن حقيقة هذا اللغز الذي تعيشه ، و تعيش فيه . . .
باكمال الكتاب ، تحقق شيء من البديهيات التي وضعتها لنفسها . . . تحقق كونها مالكة لجسدها كشيء مشابه لحوايا الزنزانة ، مخالفة لكل ذلك ، بروح الوعي ، الذي جعلها تفهم الاتصال مع القصيصة …
ادركت انها ليست بنتا للزنزانة ، ولا الزنزانة أم لها ، ولا هي التي ابدعتها داخلها ، ادركت انها ثنائية التكوين ، كينونة المادة الميتة ، وكينونة الوعي ، والروح السامية . . . لتتوسع النافذة بادراكها لتلك المعاني . .. و يدخل النور راسما الالوان مع صديقاته القطرات ، صاحبا البهجة والسرور على قلب الفتاة البريئة ، مبرزا النجوم اللماعة ، مقدما الاقمار في حلية الزينة العظمى . . .
اكتست الزنزانة بلباس عروس في مركزها ، لائحة في الافق الآمال والأماني ، التي اثلجت صدر الفتاة البريئة ، جاعلة اياها ترقص على انغام الليل البهيج ، مسيلة دموعها المعبرة عن فرحتها بذهاب الوحشة و الظلمة المخيفة . . .
ادركت ‘ بام ‘ انها نالت الاجابة عن السؤال الثاني : ” كيف ستعيش داخل الزنزانة ؟ ” ، انها ستعيش بصحبة النور ، وبالسعادة التي دخلت قلبها . . .
الا انها فطنت ان في باقي الاجزاء المظلمة ، التي لم يباركها النور، يكمن جواب باقي السؤالين ربما …
حيث أكملت مشوار بحثها ، و خطة سعيها ، بحماس اكبر ، وبحب اعمق ، حب جعلها تشكر صاحب القصيصة لانه لم يتركها في ضياع الظلمة الحالكة ، و العزلة القاتلة . . .
بالنور في قلبها ، لامست الكتابين الباقيين ، قبل مساس اليد الصغيرة التي لها ، أو الرجل التي تحبوا بها . . . . ظافرة بكتاب ‘ الروح الانسانية المجردة ‘ اولا ، يتبعه كتاب ‘ المادة الميتة ‘ ثانيا . . .
انهمكت ‘ بام ‘ في الدراسة و استخراج المعاني ، كاشفة المبهم ، مستنتجة الخفي المستخبئ . . .
انتهاء الدراسة ، كان قد رفع ‘ بام ‘ الى مقام اعلى ، ومنزلة اسمى ، حيث زاد فهمها للوعي الذي تتمتع به زيادة عظيمة عن السابق ، وزاد فقه كنه المادة الميتة عندها زيادة مميزة عن السابق أيما ميزة و امتياز
. . .
فقد أدركت الاجابة على و عن السؤالين ، ان صاحب القصيصة هو الذي وضعها في تلك الزنزانة حتى تفهم ذاتها الفهم الحقيقي الذي به ستبلغ ذروة العيش السعيد المبهج . . . ادركت ان لها وجودا سابقا على الزنزانة ، كان وجودا متدنيا ، لا ادراك فيه لما تملكه من ملكات ، فرفعها صاحب القصيصة الى الزنزانة وترك لها الورقة الصغيرة ، محفزا لها في الشروع عن التعمق لادراك ذاتها ، و فهم المحيط الذي من حولها . . . هذا كان جواب السؤال الاول : ” كيف جئت إلى الزنزانة ؟ ”
. . .
اما اجابة السؤال الثاني : ” كيف ساخرج من الزنزانة ؟ ” فقد غيرته الى سؤال أصح : ” إلى اين ساذهب بعد فتح الزنزانة ؟ ” ، حيث علمت أن سؤالها قبل التصحيح كان فرعا ليس الا عن سؤال : ” كيف ساعيش في هذه الزنزانة ؟ ” . . . لتقول : ” اعلم الآن ، اين ساذهب بعد فتح الزنزانة ؟ ” :
ساذهب لالتقي مع صاحب القصاصة الذي وضعني هنا لافهم ذاتي ، و ابقى لي رسالته ، حتى اعلم بوجوده ، بغير اتصال حقيقي معه ، لاصل الى العالم الذي هو مناسب لي حتى اعيش فيه معه . . .
حينما ادركت ‘ بام ‘ هذه المعاني كلها ، وبلغت مبلغا واسعا في فهم ذاتها وفي فهم المادة التي حولها ، و اخيرا في الفهم عن صاحب القصاصة . . . صارت الزنزانة تفتح رويدا رويدا من تلقاءها . . .
علمت أن المعنى الحقيقي لما حملته تلك الورقة الصغيرة : ” ابحثي عن الحقيقة … فاذا وجدتيها انطقي بها ، سوف تفتح الزنزانة لوحدها وتصيرين حرة …” . . . . . انما هو الادراك فقط ، لا حاجة لأي عبارة مسطورة تقال بحذافيرها ، حتى تخرج من الزنزانة . . . بل فقط الفهم اللازم لذلك . . . كما كان . . .
خرجت ‘ بام ‘ تخطو خطواتها الاولى ، الى عالمها المثالي مع صاحب القصاصة ، الى عالم النور الذي لا ظلمة فيه ولا وحشة . . .
كانت ‘ بام ‘ الكون الخامس نموذجا للانسان المثالي الذي فهم ذاته فهما حقيقيا ، وفهم المحيط الذي يعيش فيه فهما حقيقيا ، فصار يعيش في سعادة لا تضارعها سعادة ، و حب و ووجدان صوفي تأملي يملأه الشعور بالرضا والهناء . . . . كانت ‘ بام ‘ الكون الخامس الانسان حقا بما هو انسان .