قصة قصيرة : بقلم وسام يلدز سويدر

المغربيةالمستقلة : متابعة منصف الإدريسي الخمليشي 

قصة قصيرة : بقلم وسام يلدز سويدر

إلى بطرسبورغ

إلى بطرسبورغ أكتب

لقد مضت إحدى عشرة عاما على زيارتي الأخيرة لمدينتي الغالية ‘بطرسبورغ’ و لقد اكتظ الشوق في داخلي إليها و زاد حنيني إلى أمي المسكينة التي لم تسعد يوما بفراقي، فقد علمت أنها مريضة و أصبحت عجوز هرمة فعلى كل الأحوال كانت مريضة غير أن حالتها زادت سوءا، و قد تم نقلها إلى مستشفى لتلقي العلاج و رقدت هناك لأسابيع طوال، و لتدهور الوضع المالي فقد تم طردها من المستشفى و أعادتها الخادمة كاتيا إلى البيت و هي فاقدة القدرة تماما على التكلم و السمع و المشي و مع مرور الأيام امتنعت عن تناول الطعام أيضا، لقد أخبرتني بذلك كاتيا في رسالة كتبتها إلي الأسبوع الماضي و عبرت لي فيها عن أسفها و حزنها الكبير اتجاه أمي و أخبرتني أيضا أن هناك من تقدم إلى طلبها من أمي و هي راضية به، و قد أقام الإثنين حفل خطوبة في الكنيسة بحضور بعض القساوسة و المصلين و الراهب المقدس زوسيما، و لو لا عناية كاتيا بأمي كاترينا لتزوجا فورا غير أن الشاب الذي تقدم إلى طلب كاتيا اشترط عليها أن لم تعد تهتم بأمي العجوز و توظف كل اهتماماتها في العناية بالزواج و البيت، لكن كاتيا غير راضية على هذا الوضع و غير قادرة أن تفارق أمي أو تتركها لوحدها و هي في أمس الحاجة للمساعدة، و لذلك فقد طلبت من الشاب الذي كان اسمه أندريه مهلة للتفكير في الأمر، لكن من الواضح أن كاتيا معجبة بهذا الشاب و تريد الزواج منه، فقد تابعت لعدة سطور متتالية تصف مشاعرها اتجاهه في الرسالة التي كتبتها إلي و حكت لي عنه كثيرا إلى أن شعرت بالغيرة مما حكته، إنه شاب لطيف تقليدي من ضيعتها و قد جاء إلى بطرسبورغ للتلو لإكمال دراسته الجامعية حيث تخصصه الرياضيات و ينتمي إلى عائلة مسيحية محافظة جاءت إلى بلدتنا في مطلع القرن الماضي و سكنت في نفس الضيعة التي تنتمي إليها كاتيا من حيث الأصل، و التي عرفت بانتمائها لفئة النبلاء و الملاكين لأكبر الأراضي و الحقول الزراعية، فقد كانت عائلة كاتيا هي الأخرى من النبلاء و كاننت تملك أجود الأراضي الزراعية في الضيعة، و مائة بقرة لحلب اللبن و سيارة فخمة من طراز النبلاء و كانت تعيش في قصر فسيح ،و لكن والد كاتيا الذي كان مولعا بالصيد و القنص و المطاردة، و كان يخرج مع رجاله و كلابه إلى الغابات و الأجم ليزاولون الصيد في الصيف و الشتاء و من صياح الفجر إلى هبوط الظلام بلا فتور و لا كلل و لا ملل، فقد خرج يوما لمزاولة الصيد كعادته و مر بأرض مملوكة لأحد المزارعون من بلدتنا و هناك قتل غزالا، و قد زاد الصراع بين صاحب الأرض و هو عجوز يدعى لوتشين و والد كاتيا إلى أن حملا الإثنين بندقياتهما و خرجا إلى مبارزة في ساحة الضيعة و لو لا تدخل بعض رجال الضيعة لكان أحدهما قد قتل الآخر و قد وصلت القضية إلى القضاء فكان الحكم على والد كاتيا أن يتنازل على كل ما يملكه لصالح الرجل الذي يدعى لوتشين ليغذو بين عشية و ضحاها رجل مسكين يعيش مع عائلته الفقيرة في بيت صغير هزيل الجدران مؤلف من الطوب النيء بلا نوافذ و أبواب تراهن عليه المارون بانهدامه كلما تهاطل المطر، و قد اتخذه أهل القرية موضع سخرية بينهم فصار أشهى الحديث بين مجامع الرجال، و قد أدرك والد كاتيا أن معيشه في الضيعة ظل مستحيلا بعد أن فقد أراضيه و ممتلكاته و ضاع اعتباره و لم يعد أحد من رجال الضيعة يضرب له حساب و لذلك قرر الإنتقال إلى بطرسبورغ و ظل يشتغل عند والدي الذي كان عنده فرنا للحدادة في المدينة حيث كان والدي يدفع له مبلغ ألف روبل كأجرية شهرية، فأما زوجته السيدة صوفيا كانت تشتغل عندنا في البيت كخادمة و كانت تصحب معها صبيتها كاتيا التي كانت صغيرة حينذاك و قد انقطعت للتلو عن المدرسة الثانوية، و كانت كاتيا جميلة و ذكية بشكل يثير الإعجاب، إلى درجة أن أميرات بطرسبورغ كن يغرن منها لجمالها، فقد كانت ذات وجه صغير على قدر عظيم من البراءة بالإضافة إلى عينين سودوتين و شعر أسود طويل حريري و متدلي أما جسدها فكان نحيفا متناسقا، و كانت أمي معجبة بكاتيا الصغيرة و كلما اجتمعنا إلى المائدة أو جلسنا في صالة الجلوس نتحلق حول المدفأة كانت أمي تقول : ‘ سوف تكون كاتيا زوجة لواحد من أبنائي ‘ و كانت تقصد بذلك أخي الأكبر نيكولاي، لكن نيكولاي لم يكن يحمل لكاتيا أي مشاعر إعجاب، و رغم ملاحقة أمي له بموضوع الزواج من كاتيا فلم يضرم عواطفه حب كاتيا و لا جذبه جمالها الآخاذ و قد ترك البيت و سافر إلى الهند ليشتغل في زراعة الشاي، و كانت أمي واثقة تماما أن أفكار نيكولاي ستتغير في الهند و بعد عودته إلى روسيا سيرضى بالزواج من كاتيا و جهزت كاتيا سنوات طويلة لهذه الغاية غير أن نيكولاي كان قد تزوج هندية و عاد إلى روسيا مع الزوجة التي اختارها بنفسه و هي فتاة من ولاية راجستان تنتمي إلى الديانة الهندوسية، و لكنها لا تقل عن كاتيا جمالا حتى أن جمالها قليلا في مجتمعنا الروسي، و لكن أمي لم تحبها و لم ترضى بها كزوجة لنيكولاي رغم ما تتمتع به من أخلاق طيبة، و كانت تحتقرها دائما و تسبها و قد لجأت إلى العنف الجسدي في التعامل معها غير أن المسكينة لم ترد بكلمة واحدة على أمي التي كانت قاسية حادة الطباع، و قد أدرك نيكولاي هذا الأمر فقرر الإنفصال على بيت العائلة و يغادران بطرسبورغ هو زوجته نهائيا إلى موسكو، و لعل هذا كان أحد أسباب مرض أمي فقد حزنت عليه حزنا لازمها الفراش و لشهور لم تنهض من سريرها، و طوال هذه المدة كانت كاتيا هي التي تهتم بها، و لم تكن أمي ترضى أن تذوق النعمة إلا من يد كاتيا و حتى كاتيا قد تعلقت بأمي ذلك التعلق الذي ينكر الذات، بل حتى عندما مات أبيها و ماتت أمها السيدة صوفيا التي كانت تشتغل عندنا في البيت كخادمة لم تحزن قط و لا أنزلت من عينيها دمعة واحدة، و كانت أمي دائما تحرضها على البكاء كي لا يبقى الحزن بداخلها لكنها لم تبكي، بل حتى زيارة قبور والديها في أيام الأحاد أمي من كانت تأخذها إلى مقبرة الكنيسة، و زادت صحة أمي تدهورا إثر الموت المفاجئ لوالدي، حيث مرت رصاصة عابرة من نافذة أحد البيوت و اخترقت رأسه و هو يمر في الشارع عائدا من فرن الحدادة إلى البيت، و جاؤوا رجال الشرطة و أجريت بعض التحقيقات في الحي و سألوا كل فرد و لا أحد رأى أو سمع شيء، و لم تأثر حادثة موت والدي على أمي فحسب التي أصبحت مريضة و من ثم فاقدة القدرة على الحركة، بل حتى على أخي نيكولاي الذي تقاعد من عمله و صار سكيرا سريع الإنفعال مع زوجته في البيت و مع كل الناس من حوله حيث اكتسب عداوة مع كثير من الرجال، و قد رزقه الله بنت أسماها ‘دينا’ و ذات ليلة عاد إلى البيت فاقدا وعيه تماما بفعل المسكرات، و قد وجهه السكر أن يحمل سكينا من سكاكين المطبخ و يدفنه في ظهر زوجته التي كانت منهمكة في تحضير الطعام و قد فعل هذا الجرم البشع أمام أعين ابنته الصغيرة دينا التي أصبحت عصبية و من ثم عنيدة نكدة و مع الأيام أصبحت تعاني بعض الأعراض النفسية الخطرة و في كثير من المرات تفقد السيطرة على نفسها فتحتاج إلى أربعة رجال أقوياء ليمسكوا بها و لم يفارق ذهنها مشهد أمها المغطاة بالدماء و هو ما يعذبها عذابا لا طاقة لها به حتى أنها أوشكت على الانتحار، فقد ربطت الحبل يوما في سقف حجرتها و تناولت كرسيا وقفت عليه و ربطت الحبل في عنقها أوشكت أن تدفع الكرسي بقدميها لتزيحه من تحتها فتنزع الروح من جسدها بقبضة المشنقة، إن الله ألهمني أن أدخل إلى الحجرة في ذلك الوقت فلما شاهدتها ركضت كالبرق و أزحت الحبل من عنقها فقد تصرفت في الوقت المناسب تماما، و قد اضطررنا بعد هذه الحادثة أن نضع دينا في مستشفى للأمراض النفسية و نتركها هناك لفترة، لكن الأمر زاد سوءا حيث تبينت لها أعراض أخرى، و أصبحت تتخيل سماع أصوات تهمس في أذنيها قائلة لها : دينا.. دينا ستدفنين حية ‘ كما تتخيل أطياف وجوه تطل عليها من نافذة الغرفة التي تظل مفتوحة، لكن الأطباء جميعهم فسروا كلام دينا على أنه نوع الهلوسة بفعل المرض غير أن الأطباء النفيسيين وقفوا عاجزين أمام حالة دينا التي تزداد سوءا يوم بعض الآخر، و عندما لاحظنا أن وجود دينا في مستشفى الأمراض النفسية لم يغير من حالتها بل زادها سوءا و تدهورا جلبنا دينا إلى البيت، و استمرت بمتابعة جلسات الكنيسة تحضر جلسة كل أسبوع، فعندما فشلنا في علاج دينا عبر الطب النفسي لجأنا إلى القساوسة و عرضنا حالتها على الراهب المقدس زوسيما لكن هذا قال : ‘أن مرض دينا قد تطور و صار في أقصى دراجات تطوره و تحتاج دينا أن تحضر جلسات الكنيسة بانتظام كل عشية يوم أحد كي تتحسن أحوالها النفسية حيث يلجؤون القساوسة إلى الكتاب المقدس في التعامل مع حالتها’ و مرت السنوات و لازلت دينا على حالتها فقد حضرت لأكثر من أربعين جلسة للكنيسة غير أن كل ذلك ظل بلا جدوى، فإذا بها تلجأ يوما إلى نهر نيافا و تلقي بنفسها منتحبة وسط النهر و لا هم لها في ذلك إلا إشباع رغبتها، و جميعنا حزنا على موتها و كان أكثرنا حزنا أخي نيكولاي الذي بلغه خبر موت دينا و هو بين أربعة جدران في سيبيريا و قد زاده ذلك عذابا على عذابات السجن الذي وصفها إلينا في كثير من رسائله قائلا : ‘ إنني أعيش في ظلام قاتم أخشى رؤية النور ‘ و قد جاءنا الخبر أنه مرض و نقلوه ضباط السجن إلى المستوصف و هناك لفظ أنفاسه الأخيرة، و تبرعنا بشجاعة أنا و كاتيا فبكينا عنه حتى كادت أعيننا أن تبيض خفية عن أمي التي لم تسمع بخبر موت نيكولاي، و كنت كلما نظرت إلى وجه أمي سقط في ذهني ماذا عساها أن تفعل لو سمعت بخبر موت نيكولاي إنها امرأة مريضة و لا طاقة لها على الحزن بعد الآن و لا أستطيع أن أكذب عليها أيضا كلما سألتني عن أخي، و لذلك فقد قررت أن أترك البيت و أسافر إلى الهند رغم أن هذا الأمر كان صعبا على أمي لكنني توصلت إلى إقناعها، فقد قلت لها أن نيكولاي هو الذي طلب هذا الأمر، طلب مني أن أسافر إلى الهند لأهتم بحقوق الشاي التي يملكها هناك و أترأس شخصيا عمل زراعة الشاي.

Loading...